المسألة العاشرة : قوله تعالى : { إلا عابري سبيل } : أما من قال : إن المراد بقوله : { لا تقربوا الصلاة } لا تقربوا مواضع الصلاة ، فتقدير الآية عندهم : لا تقربوا المساجد وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها جنبا حتى تغتسلوا ، إلا عابري سبيل أي مجتازين غير لابثين ; فجوزوا العبور في المسجد من غير لبث فيه .
وأما من قال : إن المراد بذلك نفس الصلاة فإن تقدير الآية : لا تصلوا وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا لها ، أو تكونوا مسافرين ، فتيمموا وتصلوا وأنتم جنب حتى تغتسلوا إذا وجدتم الماء .
ورجح أهل القول الأول مذهبهم بما روي عن جابر بن عبد الله أنه كان أحدنا يمر بالمسجد وهو جنب مجتازا . وابن مسعود
ورجح الآخرون بما روى أفلت بن خليفة عن جسرة بنت دجاجة عن أن { عائشة } . خرجه النبي صلى الله عليه وسلم أمر برد الأبواب الشارعة إلى المسجد ، وقال : لا أحل المسجد لحائض ولا جنب أبو داود وغيره . [ ص: 556 ]
و المسألة تفتقر إلى تفصيل وتنقيح ، وقد أحكمناها في مسائل الخلاف بما نشير إليه هاهنا فنقول : لا إشكال في أن الآية محتملة ، ولذلك اختلف فيها الصحابة ; فإن أردنا أن نعلم المراد منها رجحنا احتمالاتها حتى نرى الفضل لمن هو فيها ; فأما أصحاب فظهر لهم أن العبور لا يمكن في نفس الصلاة فلا بد من تأويل ; وأحسنه حذف المضاف وهو الموضع ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، وهو الصلاة ; وذلك كثير في اللغة ، ولا يحتاج بعد ذلك إلى حذف كثير وتأويل طويل في قوله تعالى : { الشافعي ولا جنبا إلا عابري سبيل } .
قالوا : وأيضا فإن ما تأولتم في قوله : { إلا عابري سبيل } يفهم من الآية التي بعدها في قوله : { فتيمموا صعيدا طيبا } .
وأما علماؤنا فقالوا : إن أول ما يحفظ سبب الآية التي نزلت عليه في الصحيح ، وتحفظ فاتحتها فتحمل على ظاهرها ، حتى نرى ما يردنا عنها ويحفظ لغتها ، فإنه تعالى قال : لا تقربوها بفتح الراء ، وذلك يكون في الفعل لا في المكان ، فكيف يضمر المكان ويوصل بغير فعله ؟ هذا محال . وتقدير الآية أنه قال سبحانه : لا تصلوا سكارى ولا جنبا إلا عابري سبيل . فإن قيل : كيف يكون العبور في نفس الصلاة ؟ قلنا : بأن يكون مسافرا ، فلم يجد ماء فيصلي حينئذ بالتيمم جنبا ، لأن التيمم لا يرفع حدث الجنابة .
فإن قيل : لا يسمى المسافر عابري سبيل . قلنا : لا نسلم ، بل يقال له عابر سبيل حقيقة واسما ، والدنيا كلها سبيل تعبر . وفي الآثار : " الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها " . وقد اتفقوا معنا على أن التيمم لا يرفع الجنابة . [ ص: 557 ]
وأما قولهم : إن ما قلتم يفتقر إلى الإضمار الكثير . قلنا : إنما يفتقر إليه في تفهيم من لا يفهم مثلك ، وأما مع من يفهم فالحال تعرب عن نفسها كما أعربت الصحابة . وأما قولهم : إن هذا يفهم من الآية التي بعدها في قوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } . فليس يفهم من هذا إلا جواز التيمم عند عدم الماء ; فأما أن يكون التيمم لا يرفع الحدث مع إباحة الصلاة فليس يفهم إلا من هذا الموضع قبله ; وهي فائدة حسنة جدا .
المسألة الحادية عشرة : ثبت عن أنه قال : { عطاء بن يسار كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ، ويأتون المسجد فيتحدثون فيه } ، وربما اغتر بهذا جاهل فظن أن جائز . وهذا لا حجة فيه ; فإن كل موضع وضع للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة كيف يدخله من لا يرضى لتلك العبادة ، و لا يصح له أن يتلبس بها ؟ فإن قيل : يبطل بالحدث ، فإنه لا يحل فعل الصلاة ويدخل المسجد . قلنا : ذلك يكثر وقوعه ` فيشق الوضوء له ، والشريعة لا حرج فيها ، بخلاف الغسل ، فإنه لا مشقة في أن يمنع من المسجد حتى يغتسل ، لأنها تقع نادرا بالإضافة إلى حدث الوضوء . فإن قيل : هذا قياس ؟ قلنا : نعم ; هو قياس ; ونحن إنما نتكلم مع أصحاب اللبث للجنب في المسجد محمد الذين يرونه دليلا ; فإن وجدنا مبتدعا ينكره أخذنا معه غير هذا المسلك كما قد رأيتمونا مرارا نفعله [ ص: 558 ] فنخصمهم ونبهتهم ; وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { لم يكن أذن لأحد أن يمر فيه ولا يجلس فيه إلا علي بن أبي طالب } .