فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ولا يحسبن الذين الذين في موضع رفع ، والمفعول الأول محذوف . قال الخليل وسيبويه والفراء المعنى البخل خيرا لهم ، أي لا يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم . وإنما حذف لدلالة يبخلون على البخل ; وهو كقوله : من صدق كان خيرا له . أي كان له الصدق خيرا له . ومن هذا قول الشاعر :
إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف
فالمعنى : جرى : إلى السفه ; فالسفيه دل على السفه . وأما قراءة حمزة بالتاء فبعيدة جدا ; قاله النحاس . وجوازها أن يكون التقدير : لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم . قال الزجاج : وهي مثل واسأل القرية . و " هو " في قوله هو خيرا لهم فاصلة عند البصريين . وهي العماد عند الكوفيين . قال النحاس : ويجوز في العربية " هو خير لهم " ابتداء وخبر .الثانية : قوله تعالى : بل هو شر لهم ابتداء وخبر ، أي البخل شر لهم . والسين في سيطوقون سين الوعيد ، أي سوف يطوقون ; قاله المبرد . وهذه الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله ، وأداء الزكاة المفروضة . وهذه كقوله : ولا ينفقونها في سبيل الله الآية . ذهب إلى هذا جماعة من المتأولين ، منهم ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وأبو مالك والسدي والشعبي قالوا : ومعنى سيطوقون ما بخلوا به هو الذي ورد في الحديث عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك - ثم تلا هذه الآية - [ ص: 273 ] ولا يحسبن الذين يبخلون الآية ) . أخرجه النسائي . وخرجه ابن ماجه عن ابن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع حتى يطوق به في عنقه ثم قرأ علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله الآية . وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه . وقال ابن عباس أيضا : إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علموه من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل العلم . ومعنى سيطوقون على هذا التأويل سيحملون عقاب ما بخلوا به ; فهو من الطاقة كما قال تعالى : وعلى الذين يطيقونه وليس من التطويق .
وقال إبراهيم النخعي : معنى سيطوقون سيجعل لهم يوم القيامة طوق من النار . وهذا يجري مع التأويل الأول أي قول السدي . وقيل : يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق ; يقال : طوق فلان عمله طوق الحمامة ، أي ألزم عمله . وقد قال تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه . ومن هذا المعنى قول عبد الله بن جحش لأبي سفيان :
أبلغ أبا سفيان عن أمر عواقبه ندامه
دار ابن عمك بعتها تقضي بها عنك الغرامه
وحليفكم بالله رب الناس مجتهد القسامه
اذهب بها اذهب بها طوقتها طوق الحمامه
الثالثة : في ثمرة البخل وفائدته . وهو ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار : ( من سيدكم ؟ ) قالوا الجد بن قيس على بخل فيه . فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( وأي داء أدوى من البخل ) قالوا : وكيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : ( إن قوما نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا : ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الأضياف ببعد النساء ; وتعتذر النساء ببعد [ ص: 274 ] الرجال ; ففعلوا وطال ذلك بهم فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء ) ذكره الماوردي في كتاب " أدب الدنيا والدين " ، والله أعلم .
الرابعة : واختلف في البخل والشح ; هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين . فقيل : البخل الامتناع من إخراج ما حصل عندك . والشح : الحرص على تحصيل ما ليس عندك . وقيل : إن الشح هو البخل مع حرص . وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم . وهذا يرد قول من قال : إن البخل منع الواجب ، والشح منع المستحب . إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم ، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة . ويؤيد هذا المعنى ما رواه النسائي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبدا ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبدا . وهذا يدل على أن الشح أشد في الذم من البخل ; إلا أنه قد جاء ما يدل على مساواتهما وهو قوله - وقد سئل ; أيكون المؤمن بخيلا ؟ قال : ( لا ) وذكر الماوردي في كتاب " أدب الدنيا والدين " أن [ ص: 275 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار : ( من سيدكم ) قالوا : الجد بن قيس على بخل فيه ; الحديث . وقد تقدم .
قوله تعالى : ولله ميراث السماوات والأرض أخبر تعالى ببقائه ودوام ملكه . وأنه في الأبد كهو في الأزل غني عن العالمين ، فيرث الأرض بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم ; فتبقى الأملاك والأموال لا مدعى فيها . فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق ، وليس هذا بميراث في الحقيقة ; لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن ملكه من قبل ، والله سبحانه وتعالى مالك السماوات والأرض وما بينهما ، وكانت السماوات وما فيها ، والأرض وما فيها له ، وإن الأموال كانت عارية عند أربابها ; فإذا ماتوا ردت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل . ونظير هذه الآية قوله تعالى : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها الآية . والمعنى في الآيتين أن الله تعالى أمر عباده بأن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا لله تعالى ، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا .


