تلك حدود الله وتلك بمعنى هذه ، أي هذه أحكام الله قد بينها لكم لتعرفوها وتعملوا بها . قوله تعالى :
ومن يطع الله ورسوله في قسمة المواريث فيقر بها ويعمل بها كما أمره الله تعالى يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار جملة في موضع نصب على النعت لجنات وقوله : ومن يعص الله ورسوله يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها ويتعد حدوده أي يخالف أمره يدخله نارا خالدا فيها والعصيان إن [ ص: 73 ] أريد به الكفر فالخلود على بابه ، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدة ما . كما تقول : خلد الله ملكه . وقال زهير :
ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا
وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع . وقرأ نافع وابن عامر " ندخله " بالنون في الموضعين ، على معنى الإضافة إلى نفسه سبحانه . الباقون بالياء كلاهما ؛ لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى أي يدخله الله .قوله : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا
فيه ثمان مسائل :
الأولى : لما ذكر الله تعالى في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن إليهن ، وانجر الأمر إلى ذكر ميراثهن مع مواريث الرجال ، ذكر أيضا التغليظ عليهن فيما يأتين به من الفاحشة ، لئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف .
الثانية : قوله تعالى : " واللاتي " اللاتي جمع التي ، وهو اسم مبهم للمؤنث ، وهي معرفة ولا يجوز نزع الألف واللام منه للتنكير ، ولا يتم إلا بصلته ؛ وفيه ثلاث لغات كما تقدم . ويجمع أيضا " اللات " بحذف الياء وإبقاء الكسرة ؛ و " اللائي " بالهمزة وإثبات الياء ، و " اللاء " بكسر الهمزة وحذف الياء ، و " اللا " بحذف الهمزة . فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي : اللواتي ، وفي اللاء : اللوائي . وقد روي عنهم " اللوات " بحذف الياء وإبقاء الكسرة ؛ قاله ابن الشجري . قال الجوهري : أنشد أبو عبيد :
من اللواتي والتي واللاتي زعمن أن قد كبرت لدات
بعد اللتيا واللتيا والتي إذا علتها نفس تودت
من أجلك يالتي تيمت قلبي وأنت بخيلة بالود عني
الثالثة : يأتين الفاحشة الفاحشة في هذا الموضع الزنا ، والفاحشة الفعلة القبيحة ، وهي مصدر كالعاقبة والعافية . وقرأ قوله تعالى : ابن مسعود " بالفاحشة " بباء الجر .
الرابعة : قوله تعالى : من نسائكم إضافة في معنى الإسلام وبيان حال المؤمنات ؛ كما قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ولا يلحقها هذا الحكم .
الخامسة : قوله تعالى : فاستشهدوا عليهن أربعة منكم أي من المسلمين ، فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد . وتعديل ؛ قال الله تعالى : الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة وقال هنا : فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . وروى أبو داود عن قال : جابر بن عبد الله . وقال قوم : إنما كان الشهود في الزنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق ؛ إذ هو حق يؤخذ من كل واحد منهما ؛ وهذا ضعيف ؛ فإن اليمين تدخل في الأموال واللوث في القسامة ولا مدخل لواحد منهما هنا . جاءت اليهود برجل وامرأة منهم قد زنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ائتوني بأعلم رجلين منكم فأتوه بابني صوريا فنشدهما : كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟ قالا : نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما . قال : فما يمنعكما أن ترجموهما ؛ قالا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود ، فجاءوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما
[ ص: 75 ] السادسة : ؛ لقوله : منكم ولا خلاف فيه بين الأمة . وأن يكونوا عدولا ؛ لأن الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة ، وهذا أعظم ، وهو بذلك أولى . وهذا من حمل المطلق على المقيد بالدليل ، على ما هو مذكور في أصول الفقه . ولا يكونون ذمة ، وإن كان الحكم على ذمية ، وسيأتي ذلك في " المائدة " وتعلق ولا بد أن يكون الشهود ذكورا أبو حنيفة بقوله : أربعة منكم في أن لم يلاعن . وسيأتي بيانه في " النور " إن شاء الله تعالى . الزوج إذا كان أحد الشهود في القذف
السابعة : قوله تعالى : فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت هذه ؛ وكان هذا في ابتداء الإسلام ؛ قاله أول عقوبات الزناة عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد حتى نسخ بالأذى الذي بعده ، ثم نسخ ذلك بآية " النور " وبالرجم في الثيب . وقالت فرقة : بل كان الإيذاء هو الأول ثم نسخ بالإمساك ، ولكن التلاوة أخرت وقدمت ؛ ذكره ، وهذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة ، فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذ لهم سجن ؛ قاله ابن فورك . ابن العربي
الثامنة : واختلف العلماء هل كان هذا السجن حدا أو توعدا بالحد على قولين :
أحدهما : أنه توعد بالحد ، والثاني : ( أنه حد ) ؛ قاله ابن عباس والحسن . زاد ابن زيد : وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه . وهذا يدل على أنه كان حدا بل أشد ؛ غير أن ذلك الحكم كان ممدودا إلى غاية وهو الأذى في الآية الأخرى ، على اختلاف التأويلين في أيهما قبل ؛ وكلاهما ممدود إلى غاية وهي قوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت : . وهذا نحو قوله تعالى : خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ثم أتموا الصيام إلى الليل فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام لانتهاء غايته لا لنسخه . هذا قول المحققين المتأخرين من الأصوليين ، فإن النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما ، ، وقد قال بعض العلماء : إن الأذى والتعيير باق مع الجلد ؛ لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص [ ص: 76 ] واحد . وأما الحبس فمنسوخ بإجماع ، وإطلاق المتقدمين النسخ على مثل هذا تجوز . والله أعلم . والجمع ممكن بين الحبس والتعيير والجلد والرجم