[ ص: 293 ] فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال ابن عباس : لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها . ثم قال : غير أولي الضرر والضرر الزمانة . روى الأئمة واللفظ لأبي داود قال : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه فقال : اكتب فكتبت في كتف " زيد بن ثابت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " إلى آخر الآية ؛ فقام - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله ، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين ؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة فوقعت فخذه على فخذي ، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى ، ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اقرأ يا ابن أم مكتوم زيد فقرأت لا يستوي القاعدون من المؤمنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غير أولي الضرر الآية كلها . قال زيد : فأنزلها الله وحدها فألحقتها ؛ والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف . وفي البخاري عن عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث أنه سمع ابن عباس يقول : لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر . قال العلماء : هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد . وصح وثبت في الخبر أنه عليه السلام قال - وقد قفل من بعض غزواته : أهل الضرر بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر . فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي ؛ فقيل : يحتمل أن يكون أجره مساويا وفي فضل الله متسع ، وثوابه فضل لا استحقاق ؛ فيثيب على النية الصادقة ما لا يثيب على الفعل . وقيل : يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة . والله أعلم . إن
قلت : والقول الأول أصح - إن شاء الله - للحديث الصحيح في ذلك إن بالمدينة رجالا ولحديث أبي كبشة الأنماري قوله عليه السلام إنما الدنيا لأربعة نفر . الحديث وقد [ ص: 294 ] تقدم في سورة " آل عمران " . ومن هذا المعنى ما ورد في الخبر ( ) . إذا مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي
الثانية : وقد تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن ؛ لأن أهل الديوان لما كانوا متملكين بالعطاء ، ويصرفون في الشدائد ، وتروعهم البعوث والأوامر ، كانوا أعظم من المتطوع ؛ لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها . قال أهل الديوان أعظم أجرا من أهل التطوع ابن محيريز : أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة لما يروعون . قال مكحول : روعات البعوث تنفي روعات القيامة .
الثالثة : وتعلق بها أيضا من قال : إن ؛ لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال . وقد اختلف الناس في هذه المسألة مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه ، وما أبطر من الغنى مذموم ؛ فذهب قوم إلى تفضيل الغني ، لأن الغني مقتدر والفقير عاجز ، والقدرة أفضل من العجز . قال الغنى أفضل من الفقر : وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة . وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر ، لأن الفقير تارك والغني ملابس ، وترك الدنيا أفضل من ملابستها . قال الماوردي : وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة . وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين بأن يخرج عن حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين ، وليسلم من مذمة الحالين . قال الماوردي : وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال وأن ( خير الأمور أوسطها ) . ولقد أحسن الشاعر الحكيم حيث قال : الماوردي
ألا عائذا بالله من عدم الغنى ومن رغبة يوما إلى غير مرغب
الرابعة : قوله تعالى : غير أولي الضرر قراءة أهل الكوفة وأبو عمرو " غير " بالرفع ؛ قال الأخفش : هو نعت للقاعدين ؛ لأنهم لم يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير ؛ والمعنى لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر ؛ أي لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر . والمعنى لا يستوي القاعدون الأصحاء ؛ قاله الزجاج . وقرأ أبو حيوة " غير " جعله نعتا للمؤمنين ؛ أي من المؤمنين الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الأصحاء . وقرأ أهل الحرمين " غير " بالنصب على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين ؛ أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين . وإن شئت على الحال من القاعدين ؛ أي [ ص: 295 ] لا يستوي القاعدون من الأصحاء أي في حال صحتهم ؛ وجازت الحال منهم ؛ لأن لفظهم لفظ المعرفة ، وهو كما تقول : جاءني زيد غير مريض . وما ذكرناه من سبب النزول يدل على معنى النصب ، والله أعلم .
الخامسة : فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وقد قال بعد هذا : درجات منه ومغفرة ورحمة فقال قوم : التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد . وقيل : من أولي الضرر بدرجة واحدة ، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات ؛ قال فضل الله المجاهدين على القاعدين ابن جريج وغيرهما . وقيل : إن معنى درجة علو ، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ . فهذا معنى درجة ، و ( درجات ) يعني في الجنة . قال والسدي ابن محيريز : سبعين درجة بين كل درجتين حضر الفرس الجواد سبعين سنة . ودرجات بدل من أجر وتفسير له ، ويجوز نصبه أيضا على تقدير الظرف ؛ أي فضلهم بدرجات ، ويجوز أن يكون توكيدا لقول " أجرا عظيما " لأن الأجر العظيم هو الدرجات والمغفرة والرحمة ، ويجوز الرفع ؛ أي ذلك درجات . وأجرا نصب ب فضل وإن شئت كان مصدرا وهو أحسن ، ولا ينتصب ب " فضل " لأنه قد استوفى مفعوليه وهما قوله : ( المجاهدين ) وعلى القاعدين ؛ وكذا درجة . فالدرجات منازل بعضها أعلى من بعض . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : . وكلا وعد الله الحسنى كلا منصوب ب " وعد " والحسنى الجنة ؛ أي وعد الله كلا الحسنى . ثم قيل : المراد ( بكل ) المجاهدون خاصة . وقيل : المجاهدون وأولو الضرر . والله أعلم . إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين الدرجتين كما بين السماء والأرض