[ ص: 82 ] قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم
تبيين من الله تعالى أن أسلافهم تمردوا على موسى وعصوه ; فكذلك هؤلاء على محمد عليه السلام ، وهو تسلية له ; أي : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم ، واذكروا قصة موسى ، وروي عن عبد الله بن كثير أنه قرأ " يا قوم اذكروا " بضم الميم ، وكذلك ما أشبهه ; وتقديره يا أيها القوم . إذ جعل فيكم أنبياء لم ينصرف ; لأنه فيه ألف التأنيث . وجعلكم ملوكا أي : تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين ، فأنقذكم منه بالغرق ; فهم ملوك بهذا الوجه ، وبنحوه فسر السدي والحسن وغيرهما . قال : ملك كل واحد منه نفسه وأهله وماله ، وقال السدي قتادة : إنما قال : وجعلكم ملوكا لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدم من بني آدم . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ; لأن القبط قد كانوا يستخدمون بني إسرائيل ، وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضا مذ تناسلوا وكثروا ، وإنما اختلفت الأمم في معنى التمليك فقط ، وقيل : جعلكم ذوي منازل لا يدخل عليكم إلا بإذن ; روي معناه عن جماعة من أهل العلم . قال ابن عباس : إن الرجل إذا لم يدخل أحد بيته إلا بإذنه فهو ملك ، وعن الحسن أيضا وزيد بن أسلم من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك ; وهو قول عبد الله بن عمرو كما في صحيح مسلم عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال : سمعت وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء عبد الله بن عمرو بن العاص المهاجرين ؟ فقال له [ ص: 83 ] عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم . قال : ألك منزل تسكنه ؟ قال : نعم . قال : فأنت من الأغنياء . قال : فإن لي خادما . قال : فأنت من الملوك . قال : وفائدة هذا أن ابن العربي باعهما في الكفارة ولم يجز له الصيام ، لأنه قادر على الرقبة والملوك لا يكفرون بالصيام ، ولا يوصفون بالعجز عن الإعتاق ، وقال الرجل إذا وجبت عليه كفارة وملك دارا وخادما ابن عباس ومجاهد : جعلهم ملوكا بالمن والسلوى والحجر والغمام ، أي : هم مخدومون كالملوك ، وعن ابن عباس أيضا يعني الخادم والمنزل ; وقاله مجاهد وعكرمة ، وزادوا الزوجة ; وكذا قال والحكم بن عيينة إلا أنه قال فيما يعلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم : زيد بن أسلم من كان له بيت - أو قال منزل - يأوي إليه وزوجة وخادم يخدمه فهو ملك ; ذكره النحاس ، ويقال : من استغنى عن غيره فهو ملك ; وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم : . من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها
قوله تعالى : وآتاكم أي : أعطاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين والخطاب من موسى لقومه في قول جمهور المفسرين ; وهو وجه الكلام . مجاهد : والمراد بالإيتاء المن والسلوى والحجر والغمام ، وقيل : كثرة الأنبياء فيهم ، والآيات التي جاءتهم ، وقيل : قلوبا سليمة من الغل والغش ، وقيل : إحلال الغنائم والانتفاع بها .
قلت : وهذا القول مردود ; فإن على ما ثبت في الصحيح ; وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، وهذه المقالة من الغنائم لم تحل لأحد إلا لهذه الأمة موسى توطئة لنفوسهم حتى تعزز وتأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة ، وتنفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع من شأنه ، ومعنى من العالمين أي : عالمي زمانكم ; عن الحسن . وقال ابن جبير وأبو مالك : الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ; وهذا عدول عن ظاهر الكلام بما لا يحسن مثله . وتظاهرت الأخبار أن دمشق قاعدة الجبارين . والمقدسة معناه المطهرة . مجاهد : المباركة ; والبركة التطهير من القحوط والجوع ونحوه . قتادة : هي الشام . مجاهد : الطور وما حوله . ابن عباس والسدي وابن زيد : هي أريحاء . قال الزجاج : دمشق وفلسطين وبعض الأردن ، وقول قتادة يجمع هذا كله . التي كتب الله لكم أي : فرض دخولها عليكم ووعدكم دخولها وسكناها لكم . ولما خرجت بنو إسرائيل من مصر أمرهم بجهاد أهل أريحاء من بلاد فلسطين فقالوا : لا علم لنا بتلك الديار ; فبعث بأمر الله اثني عشر نقيبا ، من كل سبط رجل يتجسسون الأخبار على ما تقدم ، فرأوا سكانها الجبارين من العمالقة ، وهم ذوو أجسام هائلة ; حتى قيل : إن بعضهم رأى هؤلاء النقباء فأخذهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم [ ص: 84 ] بين يده وقال : إن هؤلاء يريدون قتالنا ; فقال لهم الملك : ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا ; على ما تقدم ، وقيل : إنهم لما رجعوا أخذوا من عنب تلك الأرض عنقودا فقيل : حمله رجل واحد ، وقيل : حمله النقباء الاثنا عشر .
قلت : وهذا أشبه ; فإنه يقال : إنهم لما وصلوا إلى الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم رجلان منهم ، ولا يحمل عنقود أحدهم إلا خمسة منهم في خشبة ، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبه خمسة أنفس أو أربعة .
قلت : ولا تعارض بين هذا والأول ; فإن ذلك الجبار الذي أخذهم في كمه - ويقال : في حجره - هو عوج بن عناق وكان أطولهم قامة وأعظمهم خلقا ; على ما يأتي من ذكره إن شاء الله تعالى ، وكان طول سائرهم ستة أذرع ونصفا في قول مقاتل . وقال الكلبي : كان طول كل رجل منهم ثمانين ذراعا ، والله أعلم . فلما أذاعوا الخبر ما عدا يوشع وكالب بن يوقنا ، وامتنعت بنو إسرائيل من الجهاد عوقبوا بالتيه أربعين سنة إلى أن مات أولئك العصاة ونشأ أولادهم ، فقاتلوا الجبارين وغلبوهم .
قوله تعالى : ولا ترتدوا على أدباركم أي : لا ترجعوا عن طاعتي وما أمرتكم به من قتال الجبارين ، وقيل : لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته ، والمعنى واحد .
قوله تعالى : قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين أي : عظام الأجسام طوال ، وقد تقدم ; يقال : نخلة جبارة أي : طويلة ، والجبار المتعظم الممتنع من الذل والفقر . وقال الزجاج : الجبار من الآدميين العاتي ، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد ; فأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه ; فإنه يجبر غيره على ما يريده ; وأجبره أي : أكرهه . وقيل : هو مأخوذ من جبر العظم ; فأصل الجبار على هذا المصلح أمر نفسه ، ثم استعمل في كل من جر لنفسه نفعا بحق أو باطل ، وقيل : إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه . قال الفراء : لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين ; جبار من أجبر ودراك من أدرك . ثم قيل : كان هؤلاء من بقايا عاد ، وقيل : هم من ولد عيصوا بن إسحاق ، وكانوا من الروم ، وكان معهم عوج الأعنق ، وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا ; قاله ابن عمر ، وكان يحتجن السحاب أي : يجذبه بمحجنه ويشرب منه ، ويتناول الحوت من قاع البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله ، وحضر طوفان نوح عليه السلام ولم يجاوز ركبتيه وكان عمره ثلاثة آلاف وستمائة سنة ، وأنه قلع صخرة على قدر عسكر موسى ليرضخهم بها ، فبعث الله طائرا فنقرها ووقعت في عنقه فصرعته ، وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع ; وعصاه عشرة أذرع وترقى في السماء عشرة أذرع فما [ ص: 85 ] أصاب إلا كعبه وهو مصروع فقتله ، وقيل : بل ضربه في العرق الذي تحت كعبه فصرعه فمات ووقع على نيل مصر فجسرهم سنة . ذكر هذا المعنى باختلاف ألفاظ محمد بن إسحاق والطبري ومكي وغيرهم ، وقال الكلبي : عوج من ولد هاروت وماروت حيث وقعا بالمرأة فحملت ، والله أعلم .
قوله تعالى : إنا لن ندخلها يعني البلدة إيلياء ، ويقال : أريحاء حتى يخرجوا منها أي : حتى يسلموها لنا من غير قتال ، وقيل : قالوا ذلك خوفا من الجبارين ولم يقصدوا العصيان ; فإنهم قالوا : فإن يخرجوا منها فإنا داخلون
قوله تعالى : قال رجلان من الذين يخافون قال ابن عباس وغيره : هما يوشع وكالب بن يوقنا ويقال ابن قانيا ، وكانا من الاثني عشر نقيبا . ويخافون أي : من الجبارين . قتادة : يخافون الله تعالى ، وقال الضحاك : هما رجلان كانا في مدينة الجبارين على دين موسى ; فمعنى يخافون على هذا أي : من العمالقة من حيث الطبع لئلا يطلعوا على إيمانهم فيفتنوهم ولكن وثقا بالله ، وقيل : يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم ، وقرأ مجاهد " يخافون " بضم الياء ، وهذا يقوي أنهما من غير قوم وابن جبير موسى . أنعم الله عليهما أي : بالإسلام أو باليقين والصلاح . ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون قالا لبني إسرائيل لا يهولنكم عظم أجسامهم فقلوبهم ملئت رعبا منكم ; فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة ، وكانوا قد علموا أنهم إذا دخلوا من ذلك الباب كان لهم الغلب ، ويحتمل أن يكونا قالا ذلك ثقة بوعد الله . ثم قالا : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين مصدقين به ; فإنه ينصركم . ثم قيل على القول الأول : لما قالا هذا أراد بنو إسرائيل رجمهما بالحجارة ، وقالوا : نصدقكما وندع قول عشرة ! . ثم قالوا لموسى : إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها وهذا عناد وحيد عن القتال ، وإياس من النصر . ثم جهلوا صفة الرب تبارك وتعالى فقالوا فاذهب أنت وربك وصفوه بالذهاب والانتقال ، والله متعال عن ذلك ، وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة ; وهو معنى قول الحسن ; لأنه قال : هو كفر منهم بالله ، وهو الأظهر في معنى الكلام ، وقيل : أي : أن نصرة ربك لك أحق من نصرتنا ، وقتاله معك - إن كنت رسوله - أولى من قتالنا ; فعلى هذا يكون ذلك منهم كفر ; لأنهم شكوا في رسالته . وقيل المعنى : اذهب أنت فقاتل وليعنك ربك ، وقيل : أرادوا بالرب هارون ، وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه . وبالجملة فقد فسقوا بقولهم ; لقوله تعالى : فلا تأس على القوم الفاسقين أي : لا تحزن عليهم . إنا هاهنا قاعدون أي : لا نبرح ولا نقاتل ، ويجوز " قاعدين " على الحال ; لأن الكلام قد تم قبله .
[ ص: 86 ] قوله تعالى : قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي لأنه كان يطيعه ، وقيل المعنى : إني لا أملك إلا نفسي ، ثم ابتدأ فقال : وأخي . أي : وأخي أيضا لا يملك إلا نفسه ; فأخي على القول الأول في موضع نصب عطفا على نفسي ، وعلى الثاني في موضع رفع ، وإن شئت عطفت على اسم إن وهي الياء ; أي : إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا ، وإن شئت عطفت على المضمر في أملك كأنه قال : لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا . فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين يقال : بأي وجه سأله الفرق بينه وبين هؤلاء القوم ؟ ففيه أجوبة ; الأول : بما يدل على بعدهم عن الحق ، وذهابهم عن الصواب فيما ارتكبوا من العصيان ; ولذلك ألقوا في التيه . الثاني : بطلب التمييز أي : ميزنا عن جماعتهم وجملتهم ولا تلحقنا بهم في العقاب ، وقيل المعنى : فاقض بيننا وبينهم بعصمتك إيانا من العصيان الذي ابتليتهم به ; ومنه قوله تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم أي : يقضى . وقد فعل لما أماتهم في التيه ، وقيل : إنما أراد في الآخرة ، أي اجعلنا في الجنة ولا تجعلنا معهم في النار ; والشاهد على الفرق الذي يدل على المباعدة في الأحوال قول الشاعر :
يا رب فافرق بينه وبيني أشد ما فرقت بين اثنين
وروى ابن عيينة عن عن عمرو بن دينار أنه قرأ : " فافرق " بكسر الراء . عبيد بن عميرقوله تعالى : قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض استجاب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة ، وأصل التيه في اللغة الحيرة ; يقال منه : تاه يتيه تيها وتوها إذا تحير . وتيهته وتوهته بالياء والواو ، والياء أكثر ، والأرض التيهاء التي لا يهتدى فيها ; وأرض تيه وتيهاء ومنها قال : ( هو العجاج )
تيه أتاويه على السقاط
وقال آخر :بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام
قلت : ويستفاد من هذا عقوبة الغال قبلنا ، وقد تقدم حكمه في ملتنا ، وبيان ما انبهم من اسم النبي والغال في الحديث الصحيح عن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة الحديث أخرجه غزا نبي من الأنبياء مسلم وفيه قال : وذكر نحو ما تقدم . قال علماؤنا : والحكمة في فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئا فحبست عليه حتى فتح الله [ ص: 88 ] عليه - قال : فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال : فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه - قال - فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول يوشع عند قتاله أهل أريحاء وإشرافه على فتحها عشي يوم الجمعة ، وإشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح أنه لو لم تحبس عليه حرم عليه القتال لأجل السبت ، ويعلم به عدوهم فيعمل فيهم السيف ويجتاحهم ; فكان ذلك آية له خص بها بعد أن كانت نبوته ثابتة بخبر حبس الشمس على موسى عليه الصلاة والسلام ، على ما يقال ، والله أعلم ، وفي هذا الحديث يقول عليه السلام : ذلك بأن الله عز وجل رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا ، وهذا يرد قول من قال في تأويل قوله تعالى : فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين إنه تحليل الغنائم والانتفاع بها ، وممن قال إن موسى عليه الصلاة والسلام مات بالتيه عمرو بن ميمون الأودي ، وزاد : وهارون ; وكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل ; فقالوا : ما فعل هارون ؟ فقال : مات ; قالوا : كذبت ولكنك قتلته لحبنا له ، وكان محبا في بني إسرائيل ; فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله ; فانطلق بهم إلى قبره فنادى يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال : أنا قاتلك ؟ قال : لا ; ولكني مت ; قال : فعد إلى مضجعك ; وانصرف ، وقال الحسن : إن موسى لم يمت بالتيه ، وقال غيره : إن موسى فتح أريحاء ، وكان يوشع على مقدمته فقاتل الجبابرة الذين كانوا بها ، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم ، ثم قبضه الله تعالى إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق . قال الثعلبي : وهو أصح الأقاويل .
قلت : قد روى مسلم عن قال : أبي هريرة ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال : " أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " قال : فرد الله إليه عينه وقال : " ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة " قال : " أي : رب ثم مه " ، قال : " ثم الموت " قال : " فالآن " ; فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه ، ورآه فيه قائما يصلي كما في حديث الإسراء ، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهورا عندهم ; ولعل ذلك لئلا يعبد ، والله أعلم ، ويعني بالطريق طريق أرسل بيت المقدس ، ووقع [ ص: 89 ] في بعض الروايات إلى جانب الطور مكان الطريق ، واختلف العلماء في تأويل موسى عين ملك الموت وفقئها على أقوال ; منها : أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة ، وهذا باطل ، لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له . لطم
ومنها : أنها كانت عينا معنوية وإنما فقأها بالحجة ، وهذا مجاز لا حقيقة ، ومنها : أنه عليه السلام لم يعرف ملك الموت ، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها ; وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن ، وهذا وجه حسن ; لأنه حقيقة في العين والصك ; قاله ، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث ; وهو أن الإمام أبو بكر بن خزيمة ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال : " يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت ; وأيضا قوله في الرواية الأخرى : " أجب ربك " يدل على تعريفه بنفسه ، والله أعلم .
ومنها : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب ، إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته ; وسرعة غضبه كانت سببا لصكه ملك الموت . قال : وهذا كما ترى ، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب ، ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال : أن ابن العربي موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت ، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجزم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير ، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه ، فلطمه ففقأ عينه امتحانا أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيره لملك الموت ; إذ لم يصرح له بالتخيير ، ومما يدل على صحة هذا ، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم ، والله بغيبه أحكم وأعلم . هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام ، وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا وأخبارا الله أعلم بصحتها ; وفي الصحيح غنية عنها . وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة ; فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له : كيف وجدت الموت ؟ فقال : " كشاة تسلخ وهي حية " ، وهذا صحيح معنى ; قال : صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : على ما بيناه في كتاب " التذكرة " ، وقوله : إن للموت سكرات فلا تأس على القوم الفاسقين أي : لا تحزن ، والأسى الحزن ; أسى يأسى أسى أي : حزن ، قال :
يقولون لا تهلك أسى وتجمل