قوله تعالى : إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين  
قوله تعالى : إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم  على ما تقدم من الإعراب . هل يستطيع ربك    . قراءة الكسائي  وعلي   وابن عباس   وسعيد بن جبير  ومجاهد    " هل تستطيع " بالتاء " ربك " بالنصب ، وأدغم الكسائي  اللام من هل في التاء ، وقرأ الباقون بالياء ، " ربك " بالرفع ، وهذه القراءة أشكل من الأولى ; فقال  السدي    : المعنى هل يطيعك ربك إن سألته أن ينزل  فيستطيع بمعنى يطيع ; كما قالوا : استجاب بمعنى أجاب ، وكذلك استطاع بمعنى أطاع ، وقيل المعنى : هل يقدر ربك وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل ; ولهذا قال عيسى  في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين  أي : لا تشكوا في قدرة الله تعالى . 
قلت : وهذا فيه نظر ; لأن الحواريين  خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال : من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله  ، وقال عليه السلام : لكل نبي حواري وحواري الزبير  ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاءوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم ; فكيف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى ؟ إلا أنه يجوز أن يقال : إن ذلك صدر ممن   [ ص: 281 ] كان معهم ، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، وكما قال من قال من قوم موسى    : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة  على ما يأتي بيانه في " الأعراف " إن شاء الله تعالى ، وقيل : إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين ، وإنما هو كقولك للرجل : هل يستطيع فلان أن يأتي وقد علمت أنه يستطيع ; فالمعنى : هل يفعل ذلك ؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا ؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك ; كما قال إبراهيم  صلى الله عليه وسلم : رب أرني كيف تحي الموتى  على ما تقدم ، وقد كان إبراهيم  علم لذلك علم خبر ونظر ، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة ; لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات ، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك ، ولذلك قال الحواريون    : وتطمئن قلوبنا  كما قال إبراهيم    : ولكن ليطمئن قلبي    . 
قلت : وهذا تأويل حسن ; وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين    ; على ما يأتي بيانه وقد أدخل  ابن العربي  المستطيع في أسماء الله تعالى  ، وقال : لم يرد به كتاب ولا سنة اسما وقد ورد فعلا ، وذكر قول الحواريين    : هل يستطيع ربك  ورده عليه ابن الحصار  في كتاب شرح السنة له وغيره ; قال ابن الحصار    : وقوله سبحانه مخبرا عن الحواريين  لعيسى    : هل يستطيع ربك  ليس بشك في الاستطاعة ، وإنما هو تلطف في السؤال ، وأدب مع الله تعالى ; إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه ولا لكل أحد ، والحواريون  هم كانوا خيرة من آمن بعيسى  ، فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله تعالى على كل شيء ممكن ؟ ! وأما قراءة " التاء " فقيل المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك ، هذا قول عائشة  ومجاهد    - رضي الله عنهما ; قالت عائشة  رضي الله عنها : كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا هل يستطيع ربك  قالت : ولكن " هل تستطيع ربك " ، وروي عنها أيضا أنها قالت : كان الحواريون  لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا : " هل تستطيع ربك " وعن معاذ بن جبل  قال : أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم " هل تستطيع ربك   " قال معاذ    : وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا يقرأ بالتاء " هل تسطيع ربك   " وقال الزجاج    : المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله ، وقيل : هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله ; والمعنى متقارب ، ولا بد من محذوف ، كما قال : واسأل القرية  وعلى قراءة الياء لا يحتاج إلى حذف . قال اتقوا الله  أي اتقوا معاصيه وكثرة السؤال ; فإنكم لا   [ ص: 282 ] تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات ; إذ كان الله عز وجل إنما يفعل الأصلح لعباده . إن كنتم مؤمنين  أي : إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به فقد جاءكم من الآيات ما فيه غنى . 
				
						
						
