الأولى : قوله تعالى إن الذين اتقوا يريد الشرك والمعاصي .
" إذا مسهم طيف من الشيطان " هذه قراءة أهل البصرة وأهل مكة . وقراءة أهل المدينة وأهل الكوفة طائف . وروي عن سعيد بن جبير " طيف " بتشديد الياء . قال النحاس : كلام العرب في مثل هذا " طيف " بالتخفيف ; على أنه مصدر من طاف يطيف . قال الكسائي : هو مخفف من " طيف " مثل ميت وميت . قال النحاس : ومعنى " طيف " في اللغة ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم ; وكذا معنى طائف . وقال أبو حاتم : سألت الأصمعي عن طيف ; فقال : ليس في المصادر فيعل . قال النحاس : ليس هو بمصدر ، ولكن يكون بمعنى طائف . والمعنى إن الذين اتقوا المعاصي إذا لحقهم شيء تفكروا في قدرة الله عز وجل وفي إنعامه عليهم فتركوا المعصية ; وقيل : الطيف والطائف معنيان مختلفان فالأول : التخيل . والثاني : الشيطان نفسه . فالأول مصدر طاف الخيال يطوف طيفا ; ولم يقولوا من هذا " طائف " في اسم الفاعل . قال السهيلي : لأنه تخيل لا حقيقة له . فأما قوله : فطاف عليها طائف من ربك فلا يقال فيه : طيف ; لأنه اسم فاعل حقيقة ، ويقال : إنه جبريل . قال الزجاج : طفت عليهم أطوف ، وطاف الخيال يطيف . وقال حسان :
فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء
مجاهد : الطيف الغضب . ويسمى الجنون والغضب والوسوسة طيفا ; لأنه لمة من الشيطان تشبه بلمة الخيال .فإذا هم مبصرون أي منتهون . وقيل : فإذا هم على بصيرة . وقرأ سعيد بن جبير : " تذكروا " بتشديد الذال . ولا وجه له في العربية ; ذكره النحاس .
الثانية : قال عصام بن المصطلق : دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي عليهما [ ص: 314 ] السلام ، فأعجبني سمته وحسن روائه ; فأثار مني الحسد ما كان يجنه صدري لأبيه من البغض ; فقلت : أنت ابن أبي طالب ! قال نعم . فبالغت في شتمه وشتم أبيه ; فنظر إلي نظرة عاطف رءوف ، ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فقرأ إلى قوله : فإذا هم مبصرون ثم قال لي : خفض عليك ، أستغفر الله لي ولك إنك لو استعنتنا أعناك ، ولو استرفدتنا أرفدناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك . فتوسم في الندم على ما فرط مني فقال : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين أمن أهل الشأم أنت ؟ قلت نعم . فقال : شنشنة أعرفها من أخزم ، حياك الله وبياك ، وعافاك ، وآداك ; انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك ، تجدنا عند أفضل ظنك ، إن شاء الله .
قال عصام : فضاقت علي الأرض بما رحبت ، ووددت أنها ساخت بي ; ثم تسللت منه لواذا ، وما على وجه الأرض أحب إلي منه ومن أبيه .
وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون قيل : المعنى وإخوان الشياطين وهم الفجار من ضلال الإنس تمدهم الشياطين في الغي . وقيل للفجار إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم . وقد سبق في هذه الآية ذكر الشيطان . هذا أحسن ما قيل فيه ; وهو قول قوله تعالى قتادة والحسن والضحاك . ومعنى لا يقصرون أي لا يتوبون ولا يرجعون . وقال الزجاج : في الكلام تقديم وتأخير ; والمعنى : والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصرا ولا أنفسهم ينصرون ، وإخوانهم يمدونهم في الغي ; لأن الكفار إخوان الشياطين . ومعنى الآية : إن المؤمن إذا مسه طيف من الشيطان تنبه عن قرب ; فأما المشركون فيمدهم الشيطان و لا يقصرون . قيل : يرجع إلى الكفار على القولين جميعا . وقيل : يجوز أن يرجع إلى الشيطان . قال قتادة : المعنى ثم لا يقصرون عنهم ولا يرحمونهم . والإقصار : الانتهاء عن الشيء ، أي لا تقصر الشياطين في مدهم الكفار بالغي . وقوله : في الغي يجوز أن يكون متصلا بقوله : يمدونهم ويجوز أن يكون متصلا بالإخوان . والغي : الجهل . وقرأ نافع " يمدونهم " بضم الياء وكسر الميم . والباقون بفتح الياء وضم الميم . وهما لغتان مد وأمد . [ ص: 315 ] ومد أكثر ، بغير الألف ; قاله مكي . النحاس وجماعة من أهل العربية ينكرون قراءة أهل المدينة ; منهم أبو حاتم وأبو عبيد ، قال أبو حاتم : لا أعرف لها وجها ، إلا أن يكون المعنى يزيدونهم في الغي . وحكى جماعة من أهل اللغة منهم أبو عبيد أنه يقال إذا كثر شيء شيئا بنفسه مده ، وإذا كثره بغيره قيل أمده ; نحو يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين . وحكي عن محمد بن يزيد أنه احتج لقراءة أهل المدينة قال : يقال مددت له في كذا أي زينته له واستدعيته أن يفعله . وأمددته في كذا أي أعنته برأي أو غير ذلك . قال مكي : والاختيار الفتح ; لأنه يقال : مددت في الشر ، وأمددت في الخير ; قال الله تعالى : ويمدهم في طغيانهم يعمهون . فهذا يدل على قوة الفتح في هذا الحرف ; لأنه في الشر ، والغي هو الشر ، ولأن الجماعة عليه . وقرأ عاصم الجحدري " يمادونهم في الغي " . وقرأ عيسى بن عمر " يقصرون " بفتح الياء وضم الصاد وتخفيف القاف . الباقون يقصرون بضمه ، وهما لغتان . قال امرؤ القيس :
سما لك شوق بعد ما كان أقصرا