سورة ( براءة ) مدنية باتفاق .
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين
فيه خمس مسائل :
الأولى : في أسمائها
قال سعيد بن جبير : سألت ابن عباس رضي الله عنه عن فقال : تلك الفاضحة ما زال ينزل : ومنهم ومنهم ، حتى خفنا ألا تدع أحدا . قال سورة ( براءة ) القشيري أبو نصر عبد الحميد : هذه السورة نزلت في غزوة تبوك ونزلت بعدها . وفي أولها نبذ عهود الكفار إليهم . وفي السورة كشف أسرار المنافقين . وتسمى الفاضحة والبحوث ؛ لأنها تبحث عن أسرار المنافقين وتسمى المبعثرة ، والبعثرة : البحث .
الثانية : واختلف العلماء في على أقوال خمسة : سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة
الأول : أنه قيل : كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية ، إذا كان بينهم وبين قوم عهد فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة ؛ فلما نزلت سورة ( براءة ) بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقرأها عليهم في الموسم ، ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة .
وقول ثان : روى قال : حدثنا النسائي أحمد قال : حدثنا عن محمد بن المثنى يحيى بن سعيد قال : حدثنا عوف قال : حدثنا يزيد الرقاشي قال : قال لنا ابن عباس : لعثمان ما حملكم إلى أن عمدتم إلى ( الأنفال ) وهي من المثاني وإلى ( براءة ) وهي من المئين فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا سطر " بسم الله الرحمن الرحيم " ، ووضعتموها في السبع الطول فما حملكم على ذلك ؟ قال عثمان : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من [ ص: 4 ] يكتب عنده فيقول : ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا . وتنزل عليه الآيات فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا . وكانت ( الأنفال ) من أوائل ما أنزل ، و ( براءة ) من آخر القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ؛ فظننت أنها منها ؛ فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر " بسم الله الرحمن الرحيم " . وخرجه قلت أبو عيسى الترمذي وقال : هذا حديث حسن .
وقول ثالث : روي عن عثمان أيضا . وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم : إنه لما سقط أولها سقط " بسم الله الرحمن الرحيم " معه . وروي ذلك عن وابن عبد الحكم ابن عجلان أنه بلغه أن سورة ( براءة ) كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها ؛ فلذلك لم يكتب بينهما " بسم الله الرحمن الرحيم " . وقال سعيد بن جبير : كانت مثل سورة البقرة .
وقول رابع : قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما . قالوا : لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : ( براءة ) والأنفال سورة واحدة . وقال بعضهم : هما سورتان . فتركت بينهما فرجة لقول من قال : إنهما سورتان وتركت " بسم الله الرحمن الرحيم " لقول من قال : هما سورة واحدة فرضي الفريقان معا وثبتت حجتهما في المصحف .
وقول خامس قال : سألت عبد الله بن عباس علي بن أبي طالب : لم لم يكتب في ( براءة ) " بسم الله الرحمن الرحيم " ؟ قال : لأن " بسم الله الرحمن الرحيم " أمان و ( براءة ) نزلت بالسيف ليس فيها أمان . وروي معناه عن المبرد قال : ولذلك لم يجمع بينهما فإن " بسم الله الرحمن الرحيم " رحمة و ( براءة ) نزلت سخطة . ومثله عن سفيان . قال سفيان بن عيينة : إنما لم تكتب في صدر هذه السورة " بسم الله الرحمن الرحيم " لأن التسمية رحمة ، والرحمة أمان ، وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف ؛ ولا أمان للمنافقين . والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السلام ما نزل بها في هذه السورة ، قاله القشيري . وفي قول عثمان : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن ( براءة ) وحدها ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلى الله عليه وسلم لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك . وكانتا تدعيان القرينتين فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي .
[ ص: 5 ] الثالثة : قال : هذا دليل على أن ابن العربي ألا ترى إلى القياس أصل في الدين ؛ عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى عند عدم النص ، ورأوا أن قصة ( براءة ) شبيهة بقصة ( الأنفال ) فألحقوها بها ؟ فإذا كان الله تعالى قد بين دخول القياس في تأليف القرآن ، فما ظنك بسائر الأحكام ؟ . قياس الشبه
الرابعة : قوله تعالى براءة تقول : برئت من الشيء أبرأ براءة فأنا منه بريء إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه . و براءة رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذه براءة . ويصح أن ترفع بالابتداء . والخبر في قوله : إلى الذين . وجاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة فتعرفت تعريفا ما وجاز الإخبار عنها . وقرأ عيسى بن عمر " براءة " بالنصب على تقدير التزموا براءة ، ففيها معنى الإغراء . وهي مصدر على فعالة كالشناءة والدناءة .
الخامسة : قوله تعالى إلى الذين عاهدتم من المشركين ، يعني إلى الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان المتولي للعقود ، وأصحابه بذلك كلهم راضون فكأنهم عاقدوا وعاهدوا ؛ فنسب العقد إليهم . وكذلك ما عقده أئمة الكفر على قومهم ؛ منسوب إليهم ، محسوب عليهم ، يؤاخذون به إذ لا يمكن غير ذلك ؛ فإن تحصيل الرضا من الجميع متعذر ، فإذا عقد الإمام لما يراه من المصلحة أمرا لزم جميع الرعايا .