قوله تعالى : " له معقبات " أي لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار ; فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار . وقال : معقبات والملائكة ذكران لأنه جمع معقبة ; يقال : ملك معقب ، وملائكة معقبة ، ثم معقبات جمع الجمع . وقرأ بعضهم - " له معاقيب من بين يديه ومن خلفه " . ومعاقيب جمع معقب ; وقيل للملائكة معقبة على لفظ الملائكة وقيل : أنث لكثرة ذلك منهم ; نحو نسابة وعلامة وراوية ; قاله الجوهري وغيره . والتعقب العود بعد البدء ; قال الله تعالى : ولى مدبرا ولم يعقب أي لم يرجع ; وفي الحديث : فذكر التسبيح والتحميد والتكبير . قال معقبات لا يخيب قائلهن - أو - فاعلهن أبو الهيثم : سمين " معقبات " لأنهن عادت مرة بعد مرة ، فعل من عمل عملا ثم عاد إليه فقد عقب . والمعقبات من الإبل اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعتركات على الحوض ; فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها [ ص: 255 ] أخرى .
وقوله : من بين يديه أي المستخفي بالليل والسارب بالنهار .
يحفظونه من أمر الله اختلف في هذا الحفظ ; فقيل : يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء المضرة ، لطفا منه به ، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبينه ; قاله ابن عباس وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - . قال أبو مجلز : جاء رجل من مراد إلى علي فقال : احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك ; فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه ما لم يقدر ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله ، وإن الأجل حصن حصينة ; وعلى هذا ، يحفظونه من أمر الله أي بأمر الله وبإذنه ; ف " من " بمعنى الباء ; وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض . وقيل : من بمعنى عن ; أي يحفظونه عن أمر الله ، وهذا قريب من الأول ; أي حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم ; وهذا قول الحسن ; تقول : كسوته عن عري ومن عري ; ومنه قوله - عز وجل - : أطعمهم من جوع أي عن جوع . وقيل : يحفظونه من ملائكة العذاب ، حتى لا تحل به عقوبة ; لأن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر ، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة ، وتزول عنهم الحفظة المعقبات . وقيل : يحفظونه من الجن ; قال كعب : لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن وملائكة العذاب من أمر الله ; وخصهم بأن قال : من أمر الله لأنهم غير معاينين ; كما قال : قل الروح من أمر ربي أي ليس مما تشاهدونه أنتم . وقال الفراء : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره ، له معقبات من أمر الله من بين يديه ومن خلفه يحفظونه ، وهو مروي عن مجاهد وابن جريج والنخعي ; وعلى أن ملائكة العذاب والجن من أمر الله لا تقديم فيه ولا تأخير . وقال : إن المعنى يحفظون عليه عمله ; فحذف المضاف . وقال ابن جريج قتادة : يكتبون أقواله وأفعاله . ويجوز إذا كانت المعقبات الملائكة أن تكون الهاء في له لله - عز وجل - كما ذكرنا ; ويجوز أن تكون للمستخفي ، فهذا قول . وقيل : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - أي أن الملائكة تحفظه من أعدائه ; وقد جرى ذكر الرسول في قوله : لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر أي سواء منكم من أسر القول ومن جهر به في أنه لا يضر النبي - صلى الله عليه وسلم - بل له معقبات يحفظونه - عليه السلام - ; ويجوز أن يرجع هذا إلى جميع الرسل ; لأنه قد قال : ولكل قوم هاد أي يحفظون الهادي من بين يديه ومن خلفه . وقول رابع : أن المراد بالآية السلاطين والأمراء الذين لهم قوم من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم ; فإذا جاء [ ص: 256 ] أمر الله لم يغنوا عنهم من الله شيئا ; قاله ابن عباس وعكرمة ; وكذلك قال الضحاك : هو السلطان المتحرس من أمر الله ، المشرك . وقد قيل : إن في الكلام على هذا التأويل نفيا محذوفا ، تقديره : لا يحفظونه من أمر الله تعالى ، ذكره . قال الماوردي المهدوي : ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى : يحفظونه من أمر الله على ظنه وزعمه . وقيل : سواء من أسر القول ومن جهر به فله حراس وأعوان يتعاقبون عليه فيحملونه على المعاصي ، ويحفظونه من أن ينجع فيه وعظ ; قال القشيري : وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذاب ; وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار فيصير ذلك سببا للعقوبة ; فكأنه الذي يحل العقوبة بنفسه ; فقوله : يحفظونه من أمر الله أي من امتثال أمر الله . وقال عبد الرحمن بن زيد : المعقبات ما يتعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده ; قال : ومن قال بهذا القول ففي تأويل قوله : الماوردي يحفظونه من أمر الله وجهان : أحدهما : يحفظونه من الموت ما لم يأت أجل ; قاله الضحاك . الثاني : يحفظونه من الجن والهوام المؤذية ، ما لم يأت قدر ; - قاله أبو أمامة - فإذا جاء المقدور خلوا عنه ; والصحيح أن المعقبات الملائكة ، وبه قال وكعب الأحبار الحسن ومجاهد وقتادة ; وروي عن وابن جريج ابن عباس ، واختاره النحاس ، واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : الحديث ، رواه الأئمة . وروى الأئمة عن يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار عمرو عن ابن عباس قرأ " معقبات من بين يديه ورقباء من خلفه من أمر الله يحفظونه " فهذا قد بين المعنى . وقال كنانة العدوي : دخل عثمان - رضي الله عنه - على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ! أخبرني عن العبد كم معه من ملك ؟ قال : ملك عن يمينك يكتب الحسنات ، وآخر عن الشمال يكتب السيئات ، والذي على اليمين أمير على الذي على الشمال ، فإذا عملت حسنة كتبت عشرا ، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أأكتب ؟ قال لا ؛ لعله يستغفر الله تعالى أو يتوب إليه ، فإذا قال ثلاثا ، قال نعم اكتب أراحنا الله تعالى منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله - عز وجل - وأقل استحياءه منا ، يقول الله تعالى ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله تعالى [ ص: 257 ] له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان على شفتيك وليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد وآله ، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك ، وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ، ملائكة الليل على ملائكة النهار ، لأن ملائكة الليل ليسوا بملائكة النهار ، فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي ، وإبليس مع ابن آدم بالنهار وولده بالليل . ذكره الثعلبي . قال الحسن : المعقبات أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر . واختيار الطبري : أن المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء وخلفهم ; والهاء في " له " لهن ; على ما تقدم . وقال العلماء رضوان الله عليهم : إن الله سبحانه جعل أوامره على وجهين : أحدهما : قضى حلوله ووقوعه بصاحبه ; فذلك لا يدفعه أحد ولا يغيره . والآخر : قضى مجيئه ولم يقض حلوله ووقوعه ، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظ .
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير ، إما منهم أو من الناظر لهم ، أو ممن هو منهم بسبب ; كما غير الله بالمنهزمين يوم قوله تعالى : أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم ، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة ; فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب ، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير ; كما قال - صلى الله عليه وسلم - : وقد . والله أعلم . سئل أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث
قوله تعالى : وإذا أراد الله بقوم سوءا أي هلاكا وعذابا .
فلا مرد له وقيل : إذا أراد بهم بلاء من أمراض وأسقام فلا مرد لبلائه . وله : إذا أراد الله بقوم سوءا أعمى أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه ; فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم ، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه ، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه .
وما لهم من دونه من وال أي ملجأ ; وهو معنى قول وقيل : من ناصر يمنعهم من عذابه ; وقال الشاعر : السدي .
ما في السماء سوى الرحمن من وال
ووال وولي كقادر وقدير .