مسألة : واختلف العلماء في على أربعة أقوال : إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع علمه بنفاقهم
القول الأول : قال بعض العلماء : إنما لم يقتلهم ; لأنه لم يعلم حالهم أحد سواه . وقد اتفق العلماء على بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه ، وإنما اختلفوا في سائر الأحكام . قال : وهذا منتقض ، فقد قتل ابن العربي بالمجذر بن زياد ; لأن الحارث بن سويد بن الصامت المجذر قتل أباه سويدا يوم بعاث ، فأسلم الحارث وأغفله يوم أحد فقتله ، فأخبر به جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقتله به ; لأن قتله كان غيلة ، . وقتل الغيلة حد من حدود الله
قلت : وهذه غفلة من هذا الإمام ; لأنه إن ثبت الإجماع المذكور فليس بمنتقض بما ذكر ; لأن ، وعلى هذا فتكون تلك قضية في عين بوحي ، فلا يحتج بها أو منسوخة بالإجماع . والله أعلم . الإجماع لا ينعقد ولا يثبت إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي
القول الثاني : قال أصحاب : إنما لم يقتلهم لأن الزنديق وهو الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان يستتاب ولا يقتل . قال الشافعي : وهذا وهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم ولا نقل ذلك أحد ، ولا يقول أحد إن استتابة الزنديق واجبة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم مع علمه بهم . فهذا المتأخر من أصحاب ابن العربي الذي قال : إن الشافعي جائزة قال قولا لم يصح لأحد . استتابة الزنديق
القول الثالث : إنما لم يقتلهم مصلحة لتأليف القلوب عليه لئلا تنفر عنه ، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله لعمر : أخرجه [ ص: 194 ] معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي البخاري ومسلم . وقد كان يعطي للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا ، وهذا هو قول علمائنا وغيرهم . قال ابن عطية . وهي طريقة أصحاب مالك رحمه الله في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ، نص على هذا محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل الأبهري ، واحتج بقوله تعالى : وابن الماجشون لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض إلى قوله : وقتلوا تقتيلا . قال قتادة : معناه إذا هم أعلنوا النفاق . قال مالك رحمه الله : النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم ، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة ، وهو أحد قولي . قال الشافعي مالك : وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه ; إذ لم يشهد على المنافقين . قال القاضي إسماعيل : لم يشهد على عبد الله بن أبي إلا وحده ، ولا على زيد بن أرقم الجلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه ، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل . وقال رحمه الله محتجا للقول الآخر : السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه . وبه قال أصحاب الرأي الشافعي وأحمد وغيرهم . والطبري
قال وأصحابه . وإنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم ; لأن ما يظهرونه يجب ما قبله . وقال الشافعي الطبري : جعل الله تعالى الأحكام بين عباده على الظاهر ، وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه ، فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر ; لأنه حكم بالظنون ، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا ، ووكل سرائرهم إلى الله . وقد كذب الله ظاهرهم في قوله : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون قال ابن عطية : ينفصل المالكيون عما لزموه من هذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم فيها ، وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموص عليه بالنفاق ، وبقي لكل واحد منهم أن يقول : لم أرد بها وما أنا إلا مؤمن ، ولو عين أحد لما جب كذبه شيئا . قلت : هذا الانفصال فيه نظر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أو كثيرا منهم بأسمائهم [ ص: 195 ] وأعيانهم بإعلام الله تعالى إياه ، وكان حذيفة يعلم ذلك بإخبار النبي عليه السلام إياه حتى كان عمر رضي الله عنه يقول له : يا حذيفة هل أنا منهم ؟ فيقول له : لا .
القول الرابع : وهو أن الله تعالى كان قد حفظ أصحاب نبيه عليه السلام بكونه ثبتهم أن يفسدهم المنافقون أو يفسدوا دينهم فلم يكن في تبقيتهم ضرر ، وليس كذلك اليوم ; لأنا لا نأمن من الزنادقة أن يفسدوا عامتنا وجهالنا .