فيه تسع مسائل : قوله :
الأولى : قوله تعالى : وهو الذي سخر البحر تسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله بالركوب والإرفاء وغيره ، وهذه نعمة من نعم الله علينا ، فلو شاء سلطه علينا وأغرقنا . وقد مضى الكلام في البحر وفي صيده
لتأكلوا منه لحما طريا سماه هنا لحما واللحوم عند مالك ثلاثة أجناس : فلحم ذوات الأربع جنس ، ولحم ذوات الريش جنس ، ولحم ذوات الماء جنس . فلا يجوز ، ويجوز بيع الجنس من جنسه متفاضلا ، وكذلك بيع لحم البقر والوحش بلحم الطير والسمك متفاضلا . وقال لحم الطير بلحم البقر والوحش والسمك يجوز متفاضلا أبو حنيفة : اللحم كلها أصناف مختلفة كأصولها ; فلحم البقر صنف ، ولحم الغنم صنف ، ولحم الإبل صنف ، وكذلك الوحش مختلف ، كذلك الطير ، وكذلك السمك ، وهو أحد قولي . والقول الآخر أن الكل من النعم والصيد والطير والسمك جنس واحد لا يجوز التفاضل فيه . والقول الأول هو المشهور من مذهبه عند أصحابه . ودليلنا هو أن الله - تعالى - فرق بين أسماء الأنعام في حياتها فقال : الشافعي ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ثم قال : ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين فلما أن أم بالجميع إلى اللحم قال : أحلت لكم بهيمة الأنعام فجمعها بلحم واحد لتقارب منافعها كتقارب لحم الضأن والمعز . وقال في موضع آخر : ولحم طير مما يشتهون وهذا جمع طائر الذي هو الواحد ، لقوله - تعالى - : ولا طائر يطير بجناحيه فجمع لحم الطير كله باسم واحد . وقال هنا : " لحما طريا " فجمع أصناف السمك بذكر واحد ، فكان صغاره ككباره في الجمع بينهما . وقد روي عن ابن عمر أنه سئل [ ص: 79 ] عن لحم المعز بلحم الكباش أشيء واحد ؟ فقال لا ; ولا مخالف له فصار كالإجماع ، والله أعلم . ولا حجة للمخالف في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل ; فإن الطعام في الإطلاق يتناول الحنطة وغيرها من المأكولات ولا يتناول اللحم ; ألا ترى أن القائل إذا قال : أكلت اليوم طعاما لم يسبق الفهم منه إلى أكل اللحم ، وأيضا فإنه معارض بقوله - صلى الله عليه وسلم - : وهذان جنسان ، وأيضا فقد اتفقنا على جواز بيع اللحم بلحم الطير متفاضلا لا لعلة أنه بيع طعام لا زكاة له بيع بلحم ليس فيه الزكاة ، وكذلك بيع السمك بلحم الطير متفاضلا . إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم
الثانية : وأما الجراد فالمشهور عندنا جواز بيع بعضه ببعض متفاضلا . وذكر عن سحنون أنه يمنع من ذلك ، وإليه مال بعض المتأخرين ورآه مما يدخر .
الثالثة : اختلف العلماء فيمن حلف ألا يأكل لحما ; فقال ابن القاسم : يحنث بكل نوع من هذه الأنواع الأربعة . وقال أشهب في المجموعة . لا يحنث إلا بكل لحوم الأنعام دون الوحش وغيره ، مراعاة للعرف والعادة ، وتقديما لها على إطلاق اللفظ اللغوي ، وهو أحسن .
الرابعة : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها يعني به اللؤلؤ والمرجان ; لقوله - تعالى - : قوله تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان . وإخراج الحلية إنما هي فيما عرف من الملح فقط . وقال : إن في الزمرد بحريا . وقد خطئ الهذلي في قوله في وصف الدرة :
فجاء بها من درة لطمية على وجهها ماء الفرات يدوم
فجعلها من الماء الحلو . فالحلية حق وهي نحلة الله - تعالى - لآدم وولده . خلق آدم وتوج وكلل بإكليل الجنة ، وختم بالخاتم الذي ورثه عنه سليمان بن داود - صلوات الله عليهم - ، وكان يقال له خاتم العز فيما روي .
الخامسة : امتن الله سبحانه على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر ، فلا يحرم عليهم شيء منه ، وإنما حرم الله - تعالى - على الرجال الذهب والحرير . روى الصحيح عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : . وسيأتي في سورة [ الحج ] الكلام فيه إن شاء الله . وروى لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في [ ص: 80 ] الآخرة عن البخاري ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمد رسول الله ; فاتخذ الناس مثله ; فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال : لا ألبسه أبدا ثم اتخذ خاتما من فضة فاتخذ الناس خواتيم الفضة . قال اتخذ خاتما من ذهب ، وجعل فصه مما يلي باطن كفه ، ونقش فيه ابن عمر : فلبس الخاتم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ، حتى وقع من عثمان في بئر أريس . قال أبو داود : لم يختلف الناس على عثمان حتى سقط الخاتم من يده . وأجمع العلماء على جواز على الجملة للرجال . قال التختم بالورق : وكره للنساء التختم بالفضة ; لأنه من زي الرجال ، فإن لم يجدن ذهبا فليصفرنه بزعفران أو بشبهه . وجمهور العلماء من السلف والخلف على الخطابي ، إلا ما روي عن تحريم اتخاذ الرجال خاتم الذهب أبي بكر بن عبد الرحمن وخباب ، وهو خلاف شاذ ، وكل منهما لم يبلغهما النهي والنسخ . والله أعلم . وأما ما رواه أنس بن مالك أنه - أخرجه الصحيحان واللفظ رأى في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتما من ورق يوما واحدا ، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتم ، من ورق ولبسوها ، فطرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمه فطرح الناس خواتيمهم - فهو عند العلماء وهم من للبخاري ابن شهاب ; لأن الذي نبذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو خاتم الذهب . رواه عبد العزيز بن صهيب وقتادة عن أنس ، وهو خلاف ما روى ابن شهاب عن أنس فوجب القضاء بالجملة على الواحد إذا خالفها ، مع ما يشهد للجماعة من حديث ابن عمر .
السادسة : إذا ثبت جواز ، فقد كره التختم للرجال بخاتم الفضة والتحلي به ابن سيرين وغيره من العلماء . وأجاز نقشه جماعة من العلماء . ثم إذا نقش عليه اسم الله أو كلمة حكمة أو كلمات من القرآن وجعله في شماله ، فهل يدخل به الخلاء ويستنجي بشماله ؟ خففه نقشه وأن يكون فيه ذكر الله سعيد بن المسيب . قيل ومالك لمالك : إن كان في الخاتم ذكر الله ويلبسه في الشمال أيستنجى به ؟ قال : أرجو أن يكون خفيفا . وروي عنه الكراهة وهو الأولى . وعلى المنع من ذلك أكثر أصحابه . وقد روى همام عن عن ابن جريج الزهري عن أنس قال :
[ ص: 81 ] . قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه أبو داود : هذا حديث منكر ، وإنما يعرف عن عن ابن جريج زياد بن سعد عن الزهري عن أنس . قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه أبو داود : لم يحدث بهذا إلا همام .
السابعة : روى عن البخاري أنس بن مالك أن محمد رسول الله " وقال : إني اتخذت خاتما من ورق ونقشت فيه محمد رسول الله فلا ينقشن أحد على نقشه . قال علماؤنا : فهذا دليل على جواز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتما من فضة ونقش فيه " . قال نقش اسم صاحب الخاتم على خاتمه مالك : ومن شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم على خواتيمهم ، ونهيه - عليه السلام - : ، من أجل أن ذلك اسمه وصفته برسالة الله له إلى خلقه . وروى أهل الشام أنه لا يجوز الخاتم لغير ذي سلطان . وروي في ذلك حديثا عن لا ينقشن أحد على نقش خاتمه أبي ريحانة ، وهو حديث لا حجة فيه لضعفه . وقوله - عليه السلام - : يرده ويدل على جواز اتخاذ الخاتم لجميع الناس ، إذا لم ينقش على نقش خاتمه . وكان نقش خاتم لا ينقشن أحد على نقشه الزهري " محمد يسأل الله العافية " . وكان نقش خاتم مالك " حسبي الله ونعم الوكيل " . وذكر في " نوادر الأصول " أن نقش خاتم الترمذي الحكيم موسى - عليه السلام - لكل أجل كتاب . وقد مضى في الرعد وبلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنه اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه : إنه بلغني أنك اشتريت خاتما بألف درهم ، فبعه وأطعم منه ألف جائع ، واشتر خاتما من حديد بدرهم ، واكتب عليه " رحم الله امرأ عرف قدر نفسه " .
الثامنة : من حلف ألا يلبس حليا فلبس لؤلؤا لم يحنث ; وبه قال أبو حنيفة . قال ابن خويز منداد : لأن هذا وإن كان الاسم اللغوي يتناوله فلم يقصده باليمين ، والأيمان تخص بالعرف ; ألا ترى أنه لو لم يحنث ، وكذلك لا يستضيء بسراج فجلس في الشمس لا يحنث ، وإن كان الله - تعالى - قد سمى الأرض فراشا والشمس سراجا . وقال حلف ألا ينام على فراش فنام على الأرض الشافعي وأبو يوسف ومحمد : من فإنه يحنث ; لقوله - تعالى - : حلف ألا يلبس حليا ولبس اللؤلؤ وتستخرجوا منه حلية تلبسونها والذي يخرج منه : اللؤلؤ والمرجان .
التاسعة : قوله تعالى : وترى الفلك مواخر فيه قد تقدم ذكر الفلك وركوب البحر في ( البقرة ) وغيرها . وقوله : مواخر قال ابن عباس : جواري ، من جرت تجري . سعيد بن جبير : معترضة . الحسن : مواقر . قتادة والضحاك : أي تذهب وتجيء ، مقبلة ومدبرة بريح [ ص: 82 ] واحدة . وقيل : مواخر ملججة في داخل البحر ; وأصل المخر شق الماء عن يمين وشمال . مخرت السفينة تمخر وتمخر مخرا ومخورا إذا جرت تشق الماء مع صوت ; ومنه قوله - تعالى - : وترى الفلك مواخر فيه يعني جواري . وقال الجوهري : ومخر السابح إذا شق الماء بصدره ، ومخر الأرض شقها للزراعة ، ومخرها بالماء إذا حبس الماء فيها حتى تصير أريضة ; أي خليقة بجودة نبات الزرع . وقال الطبري : المخر في اللغة صوت هبوب الريح ; ولم يقيد كونه في ماء ، وقال : إن من ذلك قول واصل مولى أبي عيينة : إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح ; أي لينظر في صوتها في الأجسام من أين تهب ، فيتجنب استقبالها لئلا ترد عليه بوله .
ولتبتغوا من فضله أي ولتركبوه للتجارة وطلب الربح .
ولعلكم تشكرون تقدم جميع هذا في ( البقرة ) والحمد لله .