الأولى : وإن لكم في الأنعام لعبرة قد تقدم القول في الأنعام ، وهي هنا الأصناف الأربعة : الإبل والبقر والضأن والمعز . لعبرة أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته . والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة ، ومنه فاعتبروا . وقال قوله تعالى : أبو بكر الوراق : العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم ، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شيء . ومن أعظم العبر بريء يحمل مذنبا .
الثانية : قوله تعالى : نسقيكم قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر [ ص: 111 ] ( بفتح النون ) من سقى يسقي . وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي ، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة . قيل : هما لغتان . وقال لبيد :
سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال
وقيل : يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته ، فإذا جعلت له شرابا أو عرضته لأن يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته ; قال ابن عزيز ، وقد تقدم . وقرأت فرقة " تسقيكم " بالتاء ، وهي ضعيفة ، يعني الأنعام . وقرئ بالياء ، أي يسقيكم الله - عز وجل - . والقراء على القراءتين المتقدمتين ; ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير .
الثالثة : قوله تعالى : مما في بطونه اختلف الناس في الضمير من قوله : مما في بطونه على ماذا يعود . فقيل : هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث . قال : العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد . قال سيبويه : وما أراه عول عليه إلا من هذه الآية ، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه . وقيل : لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال : هو الأنعام وهي الأنعام ، جاز عود الضمير بالتذكير ; وقال ابن العربي الزجاج ، وقال الكسائي : معناه مما في بطون ما ذكرناه ، فهو عائد على المذكور ; وقد قال الله - تعالى - : إنها تذكرة . فمن شاء ذكره وقال الشاعر :
مثل الفراخ نتفت حواصله
ومثله كثير . وقال الكسائي : مما في بطونه أي مما في بطون بعضه ; إذ الذكور لا ألبان لها ، وهو الذي عول عليه أبو عبيدة . وقال الفراء : الأنعام والنعم واحد ، والنعم يذكر ، ولهذا تقول العرب : هذا نعم وارد ، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام . قال : إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع ، والتأنيث إلى معنى الجماعة ، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع ، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال : ابن العربي نسقيكم مما في بطونها وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما حسنا . والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل يبرين وتيهاء فلسطين .
الرابعة : استنبط بعض العلماء الجلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير ، أن يفيد التحريم ، وقال : إنما جيء به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم ; لأن اللبن للذكر محسوب ، ولذلك لبن [ ص: 112 ] الفحل قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن لبن الفحل يحرم حين أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس ( فللمرأة السقي وللرجل اللقاح ) فجرى الاشتراك فيه بينهما . وقد مضى القول في تحريم لبن الفحل في " النساء " والحمد لله
الخامسة : من بين فرث ودم لبنا خالصا نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصا بين الفرث والدم . والفرث : الزبل الذي ينزل إلى الكرش ، فإذا خرج لم يسم فرثا . يقال : أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها . والمعنى : أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم ، ثم يخلص اللبن من الدم ; فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق . وقال قوله تعالى : ابن عباس : إن الدابة تأكل العلف فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما ، والكبد مسلط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق ، وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش ; حكمة بالغة فما تغن النذر . خالصا يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد . وقال ابن بحر : خالصا بياضه . قال النابغة :
بخالصة الأردان خضر المناكب
أي بيض الأكمام . وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة .
السادسة : قال النقاش : في هذا دليل على أن . وقاله أيضا غيره واحتج بأن قال : كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا كذلك يجوز أن يخرج المني على مخرج البول طاهرا . قال المني ليس بنجس : إن هذا لجهل عظيم وأخذ شنيع . اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة ، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة ; وليس المني من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه . ابن العربي
قلت : قد يعارض هذا بأن يقال : وأي منة أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه [ ص: 113 ] الإنسان المكرم ; وقد قال - تعالى - : يخرج من بين الصلب والترائب ، وقال : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة وهذا غاية في الامتنان . فإن قيل : إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول ، قلنا : هو ما أردناه ، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر ; وقد قيل : إن مخرجه غير مخرج البول وخاصة المرأة ; فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قاله العلماء . وقد تقدم فإن قيل : أصله دم فهو نجس ، قلنا ينتقض بالمسك ، فإن أصله دم وهو طاهر . وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم ; لحديث وأبو ثور عائشة - رضي الله عنها - قالت : . قال كنت أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يابسا بظفري : فإن لم يفرك فلا بأس به . وكان الشافعي يفرك المني من ثوبه . وقال سعد بن أبي وقاص ابن عباس : هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة . فإن قيل : فقد ثبت عن عائشة أنها قالت : . قلنا : يحتمل أن تكون غسلته استقذارا كالأشياء التي تزال من الثوب كالنجاسة ، ويكون هذا جمعا بين الأحاديث . والله أعلم . وقال كنت أغسل المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه مالك وأصحابه : هو نجس . قال والأوزاعي مالك : أمر واجب مجتمع عليه عندنا ، وهو قول غسل الاحتلام من الثوب الكوفيين . ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود أنهم غسلوه من ثيابهم . واختلف فيه عن وجابر بن سمرة ابن عمر . وعلى هذين القولين في وعائشة التابعون . نجاسة المني وطهارته
السابعة : في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره ، فأما ; لأنه مائع طاهر حصل في وعاء نجس ، وذلك أن ضرع الميتة نجس واللبن طاهر فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس . فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به فاختلف أصحابنا فيه ، فمن قال : إن الإنسان طاهر حيا وميتا فهو طاهر . ومن قال : ينجس بالموت فهو نجس . وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة ; لأن الصبي قد يغتذي به كما يغتذي من الحية ، [ ص: 114 ] وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لبن المرأة الميتة . ولم يخص . وقد مضى في " النساء " الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم
الثامنة : قوله تعالى : سائغا للشاربين أي لذيذا هينا لا يغص به من شربه . يقال : ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق ، وأساغه شاربه ، وسغته أنا أسيغه وأسوغه ، يتعدى ، والأجود أسغته إساغة . يقال : أسغ لي غصتي أي أمهلني ولا تعجلني ; وقال - تعالى - : يتجرعه ولا يكاد يسيغه . والسواغ - بكسر السين - ما أسغت به غصتك . يقال : الماء سواغ الغصص ; ومنه قول الكميت :
فكانت سواغا أن جئزت بغصة
وروي أن اللبن لم يشرق به أحد قط ، وروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
التاسعة : في هذه الآية دليل على ، ولا يقال : إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده ، لكن إذا كان من وجهه ومن غير سرف ولا إكثار . وقد تقدم هذا المعنى في " المائدة " وغيرها وفي الصحيح عن استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها أنس قال : . وقد كره بعض القراء لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدحي هذا الشراب كله : العسل والنبيذ واللبن والماء ، وأباحه عامة العلماء . وروي عن أكل الفالوذج واللبن من الطعام الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار ، فأتي بفالوذج فامتنع عن أكله ، فقال له الحسن : كل فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا .
العاشرة : روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : . قال [ ص: 115 ] علماؤنا : فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذي به الإنسان وتنمى به الجثث والأبدان ، فهو قوت خلي عن المفاسد به قوام الأجسام ، وقد جعله الله - تعالى - علامة أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلبن فشرب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه . وإذا سقي لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن لجبريل على هداية هذه الأمة التي هي خير الأمم أمة ; فقال في الصحيح : جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال لي جبريل اخترت الفطرة أما إنك لو اخترت الخمر غوت أمتك . ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات والبركات ; فهو مبارك كله . فجاءني