الأولى : ولا تمش في الأرض مرحا هذا . والمرح : شدة الفرح . وقيل : التكبر في المشي . وقيل : تجاوز الإنسان قدره . وقال نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع قتادة : هو الخيلاء في المشي . وقيل : هو البطر والأشر . وقيل : هو النشاط وهذه الأقوال متقاربة ولكنها منقسمة قسمين : أحدهما مذموم والآخر محمود ; فالتكبر والبطر والخيلاء وتجاوز الإنسان قدره مذموم والفرح والنشاط محمود . وقد وصف الله - تعالى - نفسه بأحدهما ; ففي الحديث الصحيح الحديث . والكسل مذموم [ ص: 235 ] شرعا والنشاط ضده . لله أفرح بتوبة العبد من رجل . . . . أسند وقد يكون التكبر وما في معناه محمودا ، وذلك على أعداء الله والظلمة عن أبو حاتم بن حبان ابن جابر بن عتيك عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : وأخرجه من الغيرة ما يبغض الله - عز وجل - ومنها ما يحب الله - عز وجل - ومن الخيلاء ما يحب الله - عز وجل - ومنها ما يبغض الله فأما الغيرة التي يحب الله الغيرة في الدين والغيرة التي يبغض الله الغيرة في غير دينه والخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة والاختيال الذي يبغض الله الخيلاء في الباطل أبو داود في مصنفه وغيره . وأنشدوا :
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قوم همو منك أرفع وإن كنت في عز وحرز ومنعة
فكم مات من قوم همو منك أمنع
الثانية : إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية ، وفيه تعذيب الحيوان وإجراؤه لغير معنى . وأما الرجل يستريح في اليوم النادر والساعة من يومه ، ويجم فيها نفسه في التطرح والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر ، كقراءة علم أو صلاة ، فليس بداخل في هذه الآية .
قوله تعالى : مرحا قراءة الجمهور بفتح الراء . وقراءة فرقة فيما حكى يعقوب بكسر الراء على بناء اسم الفاعل . والأول أبلغ ، فإن قولك : جاء زيد ركضا أبلغ من قولك : جاء زيد راكضا ; فكذلك قولك مرحا . والمرح المصدر أبلغ من أن يقال مرحا .
الثالثة : قوله تعالى : إنك لن تخرق الأرض يعني لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها ولن تبلغ الجبال طولا أي لن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك . ويقال : خرق الثوب أي شقه ، وخرق الأرض قطعها . والخرق : الواسع من الأرض . أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها . ولن تبلغ الجبال طولا بعظمتك ، أي بقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ ، بل أنت عبد ذليل ، محاط بك من تحتك ومن فوقك ، والمحاط محصور ضعيف ، فلا يليق بك التكبر .
والمراد بخرق الأرض هنا نقبها لا قطعها بالمسافة ; والله أعلم . وقال الأزهري : معناه لن تقطعها . النحاس : وهذا أبين ; لأنه مأخوذ من الخرق وهي الصحراء الواسعة . ويقال : فلان [ ص: 236 ] أخرق من فلان ، أي أكثر سفرا وعزة ومنعة . ويروى أن سبأ دوخ الأرض بأجناده شرقا وغربا وسهلا وجبلا ، وقتل سادة وسبى - وبه سمي سبأ - ودان له الخلق ، فلما رأى ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ثم خرج إليهم فقال : إني لما نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم ، فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس إذا أشرقت ، فسجدوا لها ، وكان ذلك أول عبادة الشمس ; فهذه عاقبة الخيلاء والتكبر والمرح ; نعوذ بالله من ذلك .
الرابعة : قوله تعالى : كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك إشارة إلى جملة ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه . ذلك يصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر . وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ومسروق سيئه على إضافة سيئ إلى الضمير ، ولذلك قال : مكروها نصب على خبر كان . والسيء : هو المكروه ، وهو الذي لا يرضاه الله - عز وجل - ولا يأمر به . وقد ذكر الله - سبحانه وتعالى - في هذه الآي من قوله : وقضى ربك - إلى قوله - " كان سيئه " مأمورات بها ومنهيات عنها ، فلا يخبر عن الجميع بأنه سيئة فيدخل المأمور به في المنهي عنه . واختار هذه القراءة أبو عبيد . ولأن في قراءة أبي " كل ذلك كان سيئاته " فهذه لا تكون إلا للإضافة . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو سيئة بالتنوين ; أي . وعلى هذا انقطع الكلام عند قوله : وأحسن تأويلا ثم قال : كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة ولا تقف ما ليس لك به علم ، ولا تمش ، ثم قال : كل ذلك كان سيئة بالتنوين . وقيل : إن قوله ولا تقتلوا أولادكم إلى هذه الآية كان سيئة لا حسنة فيه ، فجعلوا كلا محيطا بالمنهي عنه دون غيره . وقوله : مكروها ليس نعتا لسيئة ، بل هو بدل منه ; والتقدير : كان سيئة وكان مكروها . وقد قيل : إن مكروها خبر ثان لكان حمل على لفظه كل ، و " سيئة " محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل . وقال بعضهم : وهو نعت لسيئة ; لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر . وضعف أبو علي الفارسي هذا وقال : إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده مذكرا ، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر ; ألا ترى قول الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
مستقبح عندهم . ولو قال قائل : أبقل أرض لم يكن قبيحا . قال أبو علي : ولكن يجوز في قوله مكروها أن يكون بدلا من " سيئة " . ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في عند ربك ويكون عند ربك في موضع الصفة لسيئة .
[ ص: 237 ] الخامسة : استدل العلماء بهذه الآية على . قال الإمام ذم الرقص وتعاطيه : قد نص القرآن على النهي عن الرقص فقال : أبو الوفاء ابن عقيل ولا تمش في الأرض مرحا وذم المختال . والرقص أشد المرح والبطر . أولسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الإطراب والسكر ، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما . فما أقبح من ذي لحية ، وكيف إذا كان شيبة ، يرقص ويصفق على إيقاع الألحان والقضبان ، وخصوصا إن كانت أصوات لنسوان ومردان ، وهل يحسن لمن بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط ، ثم هو إلى إحدى الدارين ، يشمس بالرقص شمس البهائم ، ويصفق تصفيق النسوان ، ولقد رأيت مشايخ في عمري ما بان لهم سن من التبسم فضلا عن الضحك مع إدمان مخالطتي لهم وقال - رحمه الله - : ولقد حدثني بعض المشايخ عن الإمام أبو الفرج ابن الجوزي - رضي الله عنه - أنه قال : الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا باللعب . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في [ الكهف ] وغيرها إن شاء الله - تعالى - . الغزالي