قوله تعالى : ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا فيه ثلاث مسائل : الأولى : ولقد كرمنا بني آدم الآية . لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضا . كرمنا تضعيف كرم ; أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا . وهذا هو كرم نفي النقصان لا كرم المال . وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة ، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره . وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس ، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم ; لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان ، ويلبسون الثياب ويأكلون المركبات من الأطعمة . وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئا أو طعاما غير مركب . وحكى قوله تعالى : الطبري عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان [ ص: 264 ] بالفم . وروي عن ابن عباس ; ذكره المهدوي والنحاس ; وهو قول الكلبي ومقاتل ; ذكره . وقال الماوردي الضحاك : كرمهم بالنطق والتمييز . عطاء : كرمهم بتعديل القامة وامتدادها . يمان : بحسن الصورة . محمد بن كعب : بأن جعل محمدا - صلى الله عليه وسلم - منهم . وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب . وقال محمد بن جرير الطبري : بتسليطهم على سائر الخلق ، وتسخير سائر الخلق لهم . وقيل : بالكلام والخط . وقيل : بالفهم والتمييز . والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف ، . وبه يعرف الله ويفهم كلامه ، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله ; إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب . فمثال الشرع الشمس ، ومثال العقل العين ; فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء . وما تقدم من الأقوال بعضه أقوى من بعض . وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالا يفضل بها ابن آدم أيضا ; كجري الفرس وسمعه وإبصاره ، وقوة الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك . وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه . والله أعلم .
الثانية : قالت فرقة : هذه الآية تقتضي من حيث إنهم المستثنون في قوله - تعالى - : تفضيل الملائكة على الإنس والجن ولا الملائكة المقربون . وهذا غير لازم من الآية ، بل التفضيل فيها بين الإنس والجن ; فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بني آدم ما خصهم به من سائر الحيوان ، والجن هو الكثير المفضول ، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول ، ولم تتعرض الآية لذكرهم ، بل يحتمل أن الملائكة أفضل ، ويحتمل العكس ، ويحتمل التساوي ، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهي في هذه المسألة إلى القطع . وقد تحاشى قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض ; إذ في الخبر يونس بن متى . وهذا ليس بشيء ; لوجود النص في القرآن في التفضيل بين الأنبياء . وقد بيناه في [ البقرة ] ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن . لا تخايروا بين الأنبياء ولا تفضلوني على
الثالثة : قوله تعالى : ورزقناهم من الطيبات يعني لذيذ المطاعم والمشارب . قال مقاتل : السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى ، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من [ ص: 265 ] التبن والعظام وغيرها .
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا أي على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء ، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفراسة .
الرابعة : هذه الآية ترد ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - ، قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : احرموا أنفسكم طيب الطعام فإنما قوي الشيطان أن يجري في العروق منها . وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات ، ولا أصل له ; لأن القرآن يرده ، والسنة الثابتة بخلافه ، على ما تقرر في غير موضع . وقد حكى أبو حامد الطوسي قال : كان سهل يقتات من ورق النبق مدة . وأكل دقاق ورق التين ثلاث سنين . وذكر إبراهيم بن البنا قال : صحبت ذا النون من إخميم إلى الإسكندرية ، فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معي ، وقلت : هلم . فقال لي : ملحك مدقوق ؟ قلت نعم . قال : لست تفلح ! فنظرت إلى مزوده وإذا فيه قليل سويق شعير يسف منه . وقال أبو يزيد : ما أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة . قال علماؤنا : وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه ; لأن الله - تعالى - أكرم الآدمي بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم ، فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن ، وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج ، وإذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه ; لأن خبز الشعير بارد مجفف ، والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر . وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قوومت حكمة البارئ سبحانه بردها ، ثم يؤثر ذلك في البدن ، فكان هذا الفعل مخالفا للشرع والعقل . ومعلوم أن البدن مطية الآدمي ، ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ . وروي عن أنه اشترى زبدا وعسلا وخبز حوارى ، فقيل له : هذا كله ؟ فقال : إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال ، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال . وكان إبراهيم بن أدهم الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج ثم يقوم إلى الصلاة . ومثل هذا عن السلف كثير . وقد تقدم منه ما يكفي في المائدة والأعراف وغيرهما . والأول غلو في الدين إن صح عنهم ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم .