وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات أي على الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى : قوله تعالى : أئذا ما مت لسوف أخرج حيا وقال فيهم : ونذر الظالمين فيها جثيا أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعززوا بالدنيا ، وقالوا : فما بالنا - إن كنا على باطل - أكثر أموالا وأعز نفرا . وغرضهم إدخال الشبهة على المستضعفين ، وإيهامهم أن من كثر ماله دل ذلك على أنه المحق في دينه ، وكأنهم لم يروا في الكفار فقيرا ولا في المسلمين غنيا ، ولم يعلموا أن الله تعالى نحى أولياءه عن الاغترار بالدنيا وفرط الميل إليها . وبينات معناه مرتلات الألفاظ ملخصة المعاني ، مبينات المقاصد ؛ إما محكمات ، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات ، أو تبيين الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولا أو فعلا أو ظاهرات الإعجاز تحدي بها فلم يقدر على معارضتها . أو حججا وبراهين . والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى : وهو الحق مصدقا لأن آيات الله تعالى لا تكون إلا واضحة وحججا .
قال الذين كفروا يريد مشركي قريش النضر بن الحارث وأصحابه . للذين آمنوا يعني فقراء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت [ ص: 65 ] فيهم قشافة ، وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون ، يرجلون شعورهم ويدهنون رءوسهم ، ويلبسون خير ثيابهم ، فقالوا للمؤمنين : أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا . قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد مقاما بضم الميم وهو موضع الإقامة . ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإقامة . الباقون مقاما بالفتح ؛ أي منزلا ومسكنا . وقيل : المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة ؛ أي أي الفريقين أكثر جاها وأنصارا . وأحسن نديا أي مجلسا ؛ عن ابن عباس وعنه أيضا المنظر وهو المجلس في اللغة وهو النادي ومنه دار الندوة لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم وناداه جالسه في النادي قال :
أنادي به آل الوليد وجعفرا
والندي على فعيل : مجلس القوم ومتحدثهم ، وكذلك الندوة والنادي والمتندى ، فإن تفرق القوم فليس بندي قاله الجوهري . قوله تعالى : وكم أهلكنا قبلهم من قرن أي من أمة وجماعة . هم أحسن أثاثا ورئيا أي متاعا كثيرا ؛ قال : [ امرؤ القيس ] :
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل
والأثاث متاع البيت . وقيل : هو ما جد من الفرش ، والخرثي ما لبس منها ، وأنشد الحسن بن علي الطوسي فقال :
تقادم العهد من أم الوليد بنا دهرا وصار أثاث البيت خرثيا
وقال ابن عباس : هيئة . مقاتل : ثيابا ورئيا أي منظرا حسنا . وفيه خمس قراءات : قرأ أهل المدينة ( وريا ) بغير همز . وقرأ أهل الكوفة ( ورئيا ) بالهمز . وحكى يعقوب أن طلحة قرأ ( وريا ) بياء واحدة مخففة . وروى سفيان عن الأعمش عن عن أبي ظبيان ابن عباس ( هم أحسن أثاثا وزيا ) بالزاي ؛ فهذه أربع قراءات قال أبو إسحاق ويجوز ( هم أحسن أثاثا وريئا ) بياء بعدها همزة . النحاس : وقراءة أهل المدينة في هذا حسنة وفيها تقريران : أحدهما : أن تكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء . وكان هذا حسنا لتتفق رءوس الآيات لأنها غير مهموزات . وعلى هذا قال ابن عباس : ( الرئي المنظر ) فالمعنى : هم أحسن أثاثا ولباسا . والوجه الثاني : أن جلودهم مرتوية من [ ص: 66 ] النعمة ؛ فلا يجوز الهمز على هذا . وفي رواية ورش عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر ( ورئيا ) بالهمز تكون على الوجه الأول . وهي قراءة أهل الكوفة وأبي عمرو من رأيت على الأصل . وقراءة طلحة بن مصرف ( وريا ) بياء واحدة مخففة أحسبها غلطا . وقد زعم بعض النحويين أنه كان أصلها الهمز فقلبت الهمزة ياء ، ثم حذفت إحدى اليائين . المهدوي : ويجوز أن يكون ( ريئا ) فقلبت ياء فصارت رييا ثم نقلت حركة الهمزة على الياء وحذفت . وقد قرأ بعضهم ( وريا ) على القلب وهي القراءة الخامسة . وحكى راء بمعنى رأى . سيبويه الجوهري : من همزه جعله من المنظر من رأيت ، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي فقال :
أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث
ومن لم يهمز إما أن يكون على تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم ريا ؛ أي امتلأت وحسنت . وأما قراءة ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والأعسم المكي ويزيد البربري ( وزيا ) بالزاي فهو الهيئة والحسن . ويجوز أن يكون من زويت أي جمعت ؛ فيكون أصلها زويا فقلبت الواو ياء . ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أي جمعت ؛ أي فلم يغن ذلك عنهم شيئا من عذاب الله تعالى ؛ فليعش هؤلاء ما شاءوا فمصيرهم إلى الموت والعذاب وإن عمروا ؛ أو العذاب العاجل يأخذهم الله تعالى به . قوله تعالى : زويت لي الأرض قل من كان في الضلالة أي في الكفر فليمدد له الرحمن مدا أي فليدعه في طغيان جهله وكفره ؛ فلفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر أي من كان في الضلالة مده الرحمن مدا حتى يطول اغتراره ، فيكون ذلك أشد لعقابه ، نظيره إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقوله : ونذرهم في طغيانهم يعمهون ومثله كثير ؛ أي فليعش ما شاء ، وليوسع لنفسه في العمر ؛ فمصيره إلى الموت والعقاب . وهذا غاية في التهديد والوعيد . وقيل : هذا دعاء أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ تقول : من سرق مالي فليقطع الله تعالى يده ؛ فهو دعاء على السارق . وهو جواب الشرط وعلى هذا فليس قوله فليمدد خبرا .
حتى إذا رأوا ما يوعدون قال رأوا لأن لفظ ما يصلح للواحد [ ص: 67 ] والجمع . وإذا مع الماضي بمعنى المستقبل ؛ أي حتى يروا ما يوعدون ، والعذاب هنا إما أن يكون بنصر المؤمنين عليهم فيعذبونهم بالسيف والأسر ؛ وإما أن تقوم الساعة فيصيرون إلى النار . قوله تعالى : فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا أي تنكشف حينئذ الحقائق وهذا رد لقولهم : أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا .