قوله تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما    . 
 [ ص: 250 ] قوله تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة   هذه بيعة الرضوان  ، وكانت بالحديبية  ، وهذا خبر الحديبية   على اختصار : وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام منصرفه من غزوة بني المصطلق  في شوال ، وخرج في ذي القعدة معتمرا ،  واستنفر الأعراب الذين حول المدينة  فأبطأ عنه أكثرهم ، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن معه من المهاجرين  والأنصار  ومن اتبعه من العرب ، وجميعهم نحو ألف وأربعمائة . وقيل : ألف وخمسمائة . وقيل : غير هذا ، على ما يأتي . وساق معه الهدي ، فأحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب ، فلما بلغ خروجه قريشا  خرج جمعهم صادين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد الحرام ودخول مكة   ، وإنه إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك ، وقدموا خالد بن الوليد  في خيل إلى ( كراع الغميم    ) فورد الخبر بذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ( بعسفان    ) وكان المخبر له بشر بن سفيان الكعبي  ، فسلك طريقا يخرج به في ظهورهم ، وخرج إلى الحديبية  من أسفل مكة  ، وكان دليله فيهم رجل من أسلم  ، فلما بلغ ذلك خيل قريش  التي مع خالد  جرت إلى قريش  تعلمهم بذلك ، فلما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية  بركت ناقته - صلى الله عليه وسلم - فقال الناس : خلأت خلأت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما خلأت وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة  ، لا تدعوني قريش  اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها . ثم نزل - صلى الله عليه وسلم - هناك ، فقيل : يا رسول الله ، ليس بهذا الوادي ماء فأخرج عليه الصلاة والسلام سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالماء الرواء حتى كفى جميع الجيش . وقيل : إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بن جندب بن عمير الأسلمي  وهو سائق بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ . 
وقيل : نزل بالسهم في القليب  البراء بن عازب  ، ثم جرت السفراء بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين كفار قريش  ، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاء  سهيل بن عمرو العامري  ، فقاضاه على أن ينصرف - عليه الصلاة والسلام - عامه ذلك ، فإذا كان من قابل أتى معتمرا ودخل هو وأصحابه مكة  بغير سلاح ، حاشا السيوف في قربها فيقيم بها ثلاثا ويخرج ، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام ، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا ، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما من رجل أو امرأة رد إلى الكفار ، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يردوه إلى المسلمين ، فعظم ذلك على المسلمين حتى   [ ص: 251 ] كان لبعضهم فيه كلام ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجا ، فقال لأصحابه اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور دينه فأنس الناس إلى قوله هذا بعد نفار منهم ، وأبى  سهيل بن عمرو  أن يكتب في صدر صحيفة الصلح : من محمد  رسول الله ، وقالوا له : لو صدقناك بذلك ما دفعناك عما تريد فلا بد أن تكتب : باسمك اللهم . فقال لعلي  وكان يكتب صحيفة الصلح : امح يا علي  ، واكتب باسمك اللهم فأبى علي  أن يمحو بيده ( محمد  رسول الله ) فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اعرضه علي فأشار إليه فمحاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ، وأمره أن يكتب [ من محمد بن عبد الله    ] . 
وأتى  أبو جندل بن سهيل  يومئذ بأثر كتاب الصلح وهو يرسف في قيوده ، فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبيه ، فعظم ذلك على المسلمين ، فأخبرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبر  أبا جندل    [ أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا ] . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الصلح قد بعث عثمان بن عفان  إلى مكة  رسولا ، فجاء خبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن أهل مكة   قتلوه ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ إلى المبايعة له على الحرب والقتال لأهل مكة  ، فروي أنه بايعهم على الموت . وروي أنه بايعهم على ألا يفروا . وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة ، التي أخبر الله تعالى أنه رضي عن المبايعين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحتها . وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا يدخلون النار . وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيمينه في شماله لعثمان  ، فهو كمن شهدها . وذكر  وكيع  عن إسماعيل بن أبي خالد  عن الشعبي  قال : أول من بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية  أبو سفيان الأسدي    . وفي صحيح مسلم  عن  أبي الزبير  عن جابر  قال : كنا يوم الحديبية  ألفا وأربعمائة ، فبايعناه وعمر  آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة ، وقال : بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت وعنه أنه سمع جابرا  يسأل : كم كانوا يوم الحديبية ؟  قال : كنا أربع عشرة مائة ، فبايعناه وعمر  آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة ، فبايعناه ، غير جد بن قيس الأنصاري  اختبأ تحت بطن بعيره   . وعن  سالم بن أبي الجعد  قال : سألت  جابر بن عبد الله  عن أصحاب الشجرة    . فقال : لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا   [ ص: 252 ] ألفا وخمسمائة . وفي رواية : كنا خمس عشرة مائة   . وعن عبد الله بن أبي أوفى  قال : كان أصحاب الشجرة  ألفا وثلاثمائة ،  وكانت أسلم  ثمن المهاجرين    . وعن  يزيد بن أبي عبيد  قال : قلت لسلمة    : على أي شيء بايعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ؟  قال : على الموت   . وعن  البراء بن عازب  قال : كتب علي    - رضي الله عنه - الصلح بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين يوم الحديبية   ، فكتب : هذا ما كاتب عليه محمد  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : لا تكتب رسول الله ، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي    : [ امحه ] . فقال : ما أنا بالذي أمحاه ، فمحاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده . وكان فيما اشترطوا : أن يدخلوا مكة  فيقيموا فيها ثلاثا ، ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح   . قلت لأبي إسحاق  وما جلبان السلاح ؟ قال : القراب وما فيه . وعن أنس    : أن قريشا  صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم  سهيل بن عمرو  ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي    : [ اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ] فقال  سهيل بن عمرو    : أما بسم الله ، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب ما نعرف : باسمك اللهم . فقال : [ اكتب من محمد  رسول الله ] قالوا : لو علمنا أنك رسوله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : [ اكتب من محمد بن عبد الله    ] فاشترطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن من جاء منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا . فقالوا : يا رسول الله ، أنكتب هذا قال : [ نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا ]   . 
وعن أبي وائل  قال : قام سهل بن حنيف  يوم صفين  فقال يا أيها الناس ، اتهموا أنفسكم ، لقد كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية  ولو نرى قتالا لقاتلنا ، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين . فجاء عمر بن الخطاب    - - رضي الله عنه - فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، ألسنا على حق وهم على باطل ؟ قال [ بلى ] قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال [ بلى ] قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال [ يا بن الخطاب  إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا ] قال : فانطلق عمر  ، فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر  فقال : يا أبا بكر  ، ألسنا   [ ص: 253 ] على حق وهم على باطل ؟ قال بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال بلى . قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال : يا بن الخطاب  ، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا . قال : فنزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح ، فأرسل إلى عمر  فأقرأه إياه ، فقال : يا رسول الله ، أوفتح هو ؟ قال [ نعم ] . فطابت نفسه ورجع   . 
قوله تعالى : فعلم ما في قلوبهم  من الصدق والوفاء ، قاله الفراء    . وقال  ابن جريج  وقتادة    : من الرضا بأمر البيعة على ألا يفروا . وقال مقاتل    : من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت . فأنزل السكينة عليهم  حتى بايعوا . وقيل : فعلم ما في قلوبهم  من الكآبة بصد المشركين إياهم وتخلف رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم ، إذ رأى أنه يدخل الكعبة  ، حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ إنما ذلك رؤيا منام ] . وقال الصديق    : لم يكن فيها الدخول في هذا العام . 
والسكينة : الطمأنينة وسكون النفس إلى صدق الوعد . وقيل : الصبر . وأثابهم فتحا قريبا  قال قتادة   وابن أبي ليلى    : فتح خيبر    . وقيل : فتح مكة    . وقرئ ( وآتاهم ) ومغانم كثيرة يأخذونها  يعني أموال خيبر  ، وكانت خيبر  ذات عقار وأموال ، وكانت بين الحديبية  ومكة    . ف ( مغانم ) على هذا بدل من ( فتحا قريبا ) والواو مقحمة . وقيل : ومغانم فارس  والروم    . 
				
						
						
