فيه سبع مسائل :
الأولى : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى يعني قوله تعالى : آدم وحواء . ونزلت الآية في أبي هند ، ذكره أبو داود في ( المراسيل ) ، حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني الزهري قال : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم ، فقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نزوج بناتنا موالينا ؟ فأنزل الله - عز وجل - : إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا الآية . قال الزهري : نزلت في أبي هند خاصة . وقيل : إنها نزلت في . وقوله ثابت بن قيس بن شماس في الرجل الذي لم يتفسح له : ابن فلانة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من الذاكر فلانة ) ؟ قال ثابت : أنا يا رسول الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( انظر في وجوه القوم ) فنظر ، فقال : ( ما رأيت ) ؟ قال رأيت أبيض وأسود وأحمر ، فقال : ( فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى ) فنزلت في ثابت هذه الآية . ونزلت في الرجل الذي لم يتفسح له : يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس الآية . قال ابن عباس : لما كان يوم فتح مكة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن ، فقال عتاب بن أسيد بن أبي [ ص: 309 ] العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم . قال الحارث بن هشام : ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا . وقال : إن يرد الله شيئا يغيره . وقال سهيل بن عمرو أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء ، فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بما قالوا ، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . زجرهم عن التفاخر بالأنساب ، والتكاثر بالأموال ، والازدراء بالفقراء ، فإن المدار على التقوى . أي : الجميع من آدم وحواء ، إنما الفضل بالتقوى . وفي الترمذي عن ابن عمر بمكة فقال : ( يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها . فالناس رجلان : رجل بر تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله . والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) . خرجه من حديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب عبد الله بن جعفر والد وهو ضعيف ، ضعفه علي بن المديني وغيره . وقد خرج يحيى بن معين الطبري في كتاب ( آداب النفوس ) وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا سعيد الجريري عن قال : حدثني أو حدثنا من شهد أبي نضرة بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال : أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت ؟ - قالوا نعم قال - ليبلغ الشاهد الغائب . وفيه عن خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالك الأشعري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : آدم وأحبكم إليه أتقاكم . إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما أنتم بنو ولعلي - رضي الله عنه - في هذا المعنى وهو مشهور من شعره :
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء نفس كنفس وأرواح مشاكلة
وأعظم خلقت فيهم وأعضاء فإن يكن لهم من أصلهم حسب
يفاخرون به فالطين والماء ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم
على الهدى لمن استهدى أدلاء [ ص: 310 ] وقدر كل امرئ ما كان يحسنه
وللرجال على الأفعال سيماء وضد كل امرئ ما كان يجهله
والجاهلون لأهل العلم أعداء
الثانية : بين الله تعالى في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى ، وكذلك في أول سورة ( النساء ) ولو شاء لخلقه دونهما كخلقه لآدم ، أو دون ذكر كخلقه لعيسى - عليه السلام - ، أو دون أنثى كخلقه حواء من إحدى الجهتين . وهذا الجائز في القدرة لم يرد به الوجود . وقد جاء أن آدم خلق الله منه حواء من ضلع انتزعها من أضلاعه ، فلعله هذا القسم ، قاله . ابن العربي
الثالثة : خلق الله الخلق بين الذكر والأنثى أنسابا وأصهارا وقبائل وشعوبا ، وخلق لهم منها التعارف ، وجعل لهم بها التواصل للحكمة التي قدرها وهو أعلم بها ، فصار كل أحد يحوز نسبه ، فإذا نفاه رجل عنه استوجب الحد بقذفه ، مثل أن ينفيه عن رهطه وحسبه ، بقوله للعربي : يا عجمي ، وللعجمي : يا عربي ، ونحو ذلك مما يقع به النفي حقيقة . انتهى .
الرابعة : ذهب قوم من الأوائل إلى أن ، ويتربى في رحم الأم ، ويستمد من الدم الذي يكون فيه . واحتجوا بقوله تعالى : الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين . وقوله تعالى : ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين . وقوله : ألم يك نطفة من مني يمنى فدل على أن الخلق من ماء واحد . والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الآية ، فإنها نص لا يحتمل التأويل . وقوله تعالى : خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب والمراد منه أصلاب الرجال وترائب النساء ، على ما يأتي بيانه . وأما ما احتجوا به فليس فيه أكثر من أن الله تعالى ذكر خلق الإنسان من الماء والسلالة والنطفة ولم يضفها إلى أحد الأبوين دون الآخر . فدل على أن الماء والسلالة لهما والنطفة منهما بدلالة ما ذكرنا . وبأن المرأة تمني كما يمني الرجل ، وعن ذلك يكون الشبه ، حسب ما تقدم بيانه في آخر ( الشورى ) وقد قال في قصة نوح : فالتقى الماء على أمر قد قدر وإنما أراد ماء السماء وماء الأرض ; لأن الالتقاء لا يكون إلا من اثنين ، فلا ينكر أن يكون ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين وقوله تعالى : ألم نخلقكم من ماء مهين ويريد ماءين . والله أعلم .
[ ص: 311 ] الخامسة : قوله تعالى : وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا الشعوب : رءوس القبائل ، مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج ، واحدها شعب بفتح الشين ، سموا به لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة . والشعب من الأضداد ، يقال شعبته إذا جمعته ، ومنه المشعب ( بكسر الميم ) وهو الإشفى ; لأنه يجمع به ويشعب . قال :
فكاب على حر الجبين ومتق بمدرية كأنه ذلق مشعب
وشعبته إذا فرقته ، ومنه سميت المنية شعوبا لأنها مفرقة . فأما الشعب ( بالكسر ) فهو الطريق في الجبل ، والجمع الشعاب . قال الجوهري : الشعب : ما تشعب من قبائل العرب والعجم ، والجمع الشعوب . والشعوبية : فرقة لا تفضل العرب على العجم . وأما الذي في الحديث : أن رجلا من الشعوب أسلم ، فإنه يعني من العجم . والشعب : القبيلة العظيمة ، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه ، أي : يجمعهم ويضمهم . قال ابن عباس : الشعوب الجمهور ، مثل مضر . والقبائل : الأفخاذ . وقال مجاهد : الشعوب البعيد من النسب ، والقبائل دون ذلك . وعنه أيضا أن الشعوب النسب الأقرب . وقاله قتادة . ذكر الأول عنه المهدوي ، والثاني . قال الشاعر [ الماوردي طرفة بن العبد ] :
رأيت سعودا من شعوب كثيرة فلم أر سعدا مثل سعد بن مالك
وقال آخر :
قبائل من شعوب ليس فيهم كريم قد يعد ولا نجيب
وقيل : إن الشعوب عرب اليمن من قحطان ، والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان . وقيل : إن الشعوب بطون العجم ، والقبائل بطون العرب . وقال ابن عباس في رواية : إن الشعوب الموالي ، والقبائل العرب . قال القشيري : وعلى هذا فالشعوب من لا يعرف لهم أصل نسب كالهند والجبل والترك ، والقبائل من العرب . : ويحتمل أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب ، والقبائل هم المشتركون في الأنساب . قال الشاعر : الماوردي
[ ص: 312 ]
وتفرقوا شعبا فكل جزيرة فيها أمير المؤمنين ومنبر
وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه : الشعب أكبر من القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ . وقيل : الشعب ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة ، وقد نظمها بعض الأدباء فقال :
اقصد الشعب فهو أكثر حي عددا في الحواء ثم القبيله
ثم تتلوها العمارة ثم ال بطن والفخذ بعدها والفصيله
ثم من بعدها العشيرة لكن هي في جنب ما ذكرناه قليله
وقال آخر :
قبيلة قبلها شعب وبعدهما عمارة ثم بطن تلوه فخذ
وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته ولا سداد لسهم ما له قذذ
السادسة : قوله تعالى : لتعارفوا إن أكرمكم عند الله وقد تقدم في سورة ( الزخرف ) عند قوله تعالى : وإنه لذكر لك ولقومك . وفي هذه الآية ما يدلك على أن هي المراعى عند الله تعالى وعند رسوله دون الحسب والنسب . وقرئ ( أن ) بالفتح . كأنه قيل : لم يتفاخر بالأنساب ؟ قيل : لأن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم . وفي التقوى الترمذي عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ) . قال : هذا حديث حسن غريب صحيح . وذلك يرجع إلى قوله تعالى : الحسب المال والكرم التقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وقد جاء منصوصا عنه - عليه السلام - : ( ) . من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله
والتقوى معناه مراعاة حدود الله تعالى أمرا ونهيا ، والاتصاف بما أمرك أن تتصف به ، والتنزه عما نهاك عنه . وقد مضى هذا في غير موضع .
وفي الخبر من رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أبي هريرة ) . وروى إن الله تعالى يقول يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان وأنا اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم ، أين المتقون ؟ أين المتقون ؟ الطبري من حديث [ ص: 313 ] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أبي هريرة ) . وأعرض في كل عطفيه . إن أوليائي المتقون يوم القيامة وإن كان نسب أقرب من نسب . يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد فأقول هكذا وهكذا
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهارا غير سر يقول : ( ) . وعن إن آل أبي ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين أبي هريرة يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ) قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : ( فأكرمهم عند الله أتقاهم ) فقالوا : ليس عن هذا نسألك ، فقال : ( عن معادن العرب ؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) وأنشدوا في ذلك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : من أكرم الناس ؟ فقال : (
ما يصنع العبد بعز الغنى والعز كل العز للمتقي
من عرف الله فلم تغنه معرفة الله فذاك الشقي
السابعة : ذكر الطبري حدثني عمر بن محمد قال حدثنا عبيد بن إسحاق العطار قال حدثنا مندل بن علي عن عن ثور بن يزيد قال : سالم بن أبي الجعد الأنصار امرأة فطعن عليها في حسبها ، فقال الرجل : إني لم أتزوجها لحسبها إنما تزوجتها لدينها وخلقها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما يضرك ألا تكون من آل حاجب بن زرارة ) . ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( تزوج رجل من إن الله تبارك وتعالى جاء بالإسلام فرفع به الخسيسة وأتم به الناقصة وأذهب به اللوم فلا لوم على مسلم إنما اللوم لوم الجاهلية ) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ولذلك كان أكرم البشر على الله تعالى . إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي
قال : وهذا الذي لحظ ابن العربي مالك في . روى الكفاءة في النكاح عبد الله عن مالك : واحتج بهذه الآية . وقال يتزوج المولى العربية ، أبو حنيفة : يراعى الحسب والمال . وفي الصحيح عن والشافعي عائشة أن - وكان ممن شهد أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بدرا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تبنى سالما وأنكحه هندا بنت أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وهو مولى لامرأة من الأنصار . كانت تحت وضباعة بنت الزبير المقداد بن الأسود .
قلت : وأخت عبد الرحمن بن عوف كانت تحت بلال . كانت [ ص: 314 ] تحت وزينب بنت جحش . فدل على جواز نكاح الموالي العربية ، وإنما تراعى الكفاءة في الدين . والدليل عليه أيضا ما روى زيد بن حارثة سهل بن سعد في صحيح البخاري وقال - صلى الله عليه وسلم - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليه رجل فقال : ( ما تقولون في هذا ) ؟ فقالوا : حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يسمع . قال : ثم سكت ، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال : ( ما تقولون في هذا ؟ ) قالوا : حري إن خطب ألا ينكح ، وإن شفع ألا يشفع ، وإن قال ألا يسمع . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هذا خير من ملء الأرض مثل هذا ) . . تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها - وفي رواية - ولحسبها فعليك بذات الدين تربت يداك
وقد خطب سلمان إلى أبي بكر ابنته فأجابه ، وخطب إلى عمر ابنته فالتوى عليه ، ثم سأله أن ينكحها فلم يفعل سلمان . وخطب بلال بنت البكير فأبى إخوتها ، قال بلال : يا رسول الله ، ماذا لقيت من بني البكير ! خطبت إليهم أختهم فمنعوني وآذوني ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل بلال ، فبلغهم الخبر فأتوا أختهم فقالوا : ماذا لقينا من سببك ؟ فقالت أختهم : أمري بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فزوجوها . أبي هند حين حجمه : ( أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ) . وهو مولى وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بني بياضة .
وروى من حديث الدارقطني الزهري عن عروة عن عائشة أبا هند مولى بني بياضة كان حجاما فحجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من سره أن ينظر إلى من صور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى أبي هند ) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أنكحوه وأنكحوا إليه ) . قال أن : وقد يعتبر القشيري أبو نصر وهو الاتصال بشجرة النبوة أو بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء ، أو بالمرموقين في الزهد والصلاح . والتقي المؤمن أفضل من الفاجر النسيب ، فإن كانا تقيين فحينئذ يقدم النسيب منهما ، كما تقدم الشاب على الشيخ في الصلاة إذا استويا في التقوى . النسب في الكفاءة في النكاح