قوله تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أي : يقرب ويحين ، قال الشاعر :
ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا
وماضيه أنى - بالقصر - يأني . ويقال : آن لك - بالمد - أن تفعل كذا يئين أينا أي : حان ، مثل : أنى لك وهو مقلوب منه . وأنشد ابن السكيت :ألما يئن لي أن تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا
قوله تعالى : ولا يكونوا أي : وألا يكونوا فهو منصوب عطفا على أن تخشع .
[ ص: 226 ] وقيل : مجزوم على النهي ، مجازه ولا يكونن ، ودليل هذا التأويل رواية رويس عن يعقوب " لا تكونوا " بالتاء ، وهي قراءة عيسى . يقول : لا تسلكوا سبيل وابن إسحاق اليهود والنصارى ، أعطوا التوراة والإنجيل فطالت الأزمان بهم . قال ابن مسعود : إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم ، فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم ، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، ثم قالوا : أعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل ، فإن تابعوكم فاتركوهم وإلا فاقتلوهم . ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم ، وقالوا : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد ، وإن أبى قتلناه فلا يختلف علينا بعده أحد ، فأرسلوا إليه ، فكتب كتاب الله في ورقة وجعلها في قرن وعلقه في عنقه ثم لبس عليه ثيابه ، فأتاهم فعرضوا عليه كتابهم ، وقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فضرب بيده على صدره ، وقال : آمنت بهذا - يعني المعلق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة ، وخير مللهم أصحاب ذي القرن . قال عبد الله : ومن يعش منكم فسيرى منكرا ، وبحسب أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره . وقال مقاتل بن حيان : يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمد واستبطئوا بعث النبي صلى الله عليه وسلم فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون يعني : الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع . وقيل : من لا يعلم ما يتدين به من الفقه ويخالف من يعلم . وقيل : هم من لا يؤمن في علم الله تعالى . ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، وطائفة منهم رجعوا عن دين عيسى وهم الذين فسقهم الله . وقال محمد بن كعب : كانت الصحابة بمكة مجدبين ، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ، ففتروا عما كانوا فيه ، فقست قلوبهم ، فوعظهم الله فأفاقوا . وذكر ابن المبارك : أخبرنا مالك بن أنس ، قال : بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم ، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون . ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فيها - أو قال في ذنوبكم - كأنكم عبيد ، فإنما الناس رجلان : معافى ومبتلى ، فارحموا أهل البلاء ، واحمدوا الله على العافية . وهذه الآية ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله كانت سبب توبة الفضيل بن عياض رحمهما الله تعالى . ذكر وابن المبارك أبو المطرف عبد الرحمن بن مروان القلانسي قال : حدثنا أبو [ ص: 227 ] محمد الحسن بن رشيق ، قال حدثنا علي بن يعقوب الزيات ، قال حدثنا إبراهيم بن هشام ، قال حدثنا زكريا بن أبي أبان ، قال حدثنا الليث بن الحارث قال حدثنا الحسن بن داهر ، قال سئل عن بدء زهده قال : كنت يوما مع إخواني في بستان لنا ، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه ، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا ، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور ، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له راشين السحر ، وأراد سنان يغني ، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة ، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد ، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان - يعني العود الذي بيده - ويقول : عبد الله بن المبارك ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق قلت : بلى والله ! وكسرت العود ، وصرفت من كان عندي ، فكان هذا أول زهدي وتشميري . وبلغنا عن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود :
ألم يأن لي منك أن ترحما وتعص العواذل واللوما
وترثي لصب بكم مغرم أقام على هجركم مأتما
يبيت إذا جنه ليله يراعي الكواكب والأنجما
وماذا على الصب لو أنه أحل من الوصل ما حرما
اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها أي : يحيي الأرض الجدبة بعد موتها بالمطر . وقال قوله تعالى : صالح المري : المعنى : يلين القلوب بعد قساوتها . وقال : يحييها بالعدل بعد الجور . وقيل : المعنى فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالكفر والضلالة . وقيل : كذلك يحيي الله الموتى من الأمم ، ويميز بين الخاشع قلبه وبين القاسي قلبه . جعفر بن محمد
قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون أي : إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على ، وأنه لمحيي الموتى . قدرة الله
[ ص: 228 ]