الأولى : قوله تعالى : ما قطعتم من لينة ما في محل نصب ب : " قطعتم " ; كأنه قال : أي شيء قطعتم . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير - وهي البويرة - حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد ، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها . واختلفوا في عدد ذلك ; فقال قتادة والضحاك : إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات . وقال محمد بن إسحاق : إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة . وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره ; إما لإضعافهم بها ، وإما لسعة المكان بقطعها . فشق ذلك عليهم فقالوا وهم يهود أهل الكتاب : يا محمد ، ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح ، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر ؟ وهل وجدت فيما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض ؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم . ووجد المؤمنون في أنفسهم حتى اختلفوا ; فقال بعضهم : لا تقطعوا مما أفاء الله علينا . وقال بعضهم : اقطعوا لنغيظهم بذلك . فنزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع وتحليل من قطع من الإثم ، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله . وقال شاعرهم سماك اليهودي في ذلك :
[ ص: 9 ]
ألسنا ورثنا الكتاب الحكيم على عهد موسى ولم نصدف وأنتم رعاء لشاء عجاف
بسهل تهامة والأخيف ترون الرعاية مجدا لكم
لدى كل دهر لكم مجحف فيا أيها الشاهدون انتهوا
عن الظلم والمنطق المؤنف لعل الليالي وصرف الدهور
يدلن من العادل المنصف بقتل النضير وإجلائها
وعقر النخيل ولم تقطف
فأجابه حسان بن ثابت :
تفاقد معشر نصروا قريشا وليس لهم ببلدتهم نصير
هموا أوتوا الكتاب فضيعوه وهم عمي عن التوراة بور
كفرتم بالقران وقد أبيتم بتصديق الذي قال النذير
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
فأجابه : أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب
أدام الله ذلك من صنيع وحرق في نواحيها السعير
ستعلم أينا منها بنزه وتعلم أي أرضينا تصير
فلو كان النخيل بها ركابا لقالوا لا مقام لكم فسيروا
الثانية : كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة ، وتحصنوا منه في الحصون ، وأمر بقطع النخل وإحراقها ، وحينئذ نزل تحريم الخمر . ودس عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير : إنا معكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ; فاغتروا بذلك . فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم وألقوا بأيديهم ، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكف عن دمائهم ويجليهم ; على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح ، فاحتملوا كذلك إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام . وكان ممن سار منهم إلى خيبر أكابرهم ; كحيي بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق ، وكنانة بن الربيع . فدانت لهم خيبر .
[ ص: 10 ] الثالثة : ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر بني النضير وحرق . ولها يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل حسان :
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
واختلف الناس في على قولين : الأول : أن ذلك جائز ; قاله في المدونة . الثاني : إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا ، وإن يئسوا فعلوا ; قاله تخريب دار العدو وتحريقها وقطع ثمارها مالك في الواضحة . وعليه يناظر أصحاب . الشافعي : والصحيح الأول . وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخل ابن العربي بني النضير له ; ولكنه قطع وحرق ليكون ذلك نكاية لهم ووهنا فيهم حتى يخرجوا عنها . مصلحة جائزة شرعا ، مقصودة عقلا . وإتلاف بعض المال لصلاح باقيه
الرابعة : قال : إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب . وقاله الماوردي الكيا الطبري قال : وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك وسكت ; فتلقوا الحكم من تقريره فقط . قال : وهذا باطل ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولا اجتهاد مع حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يدل على ابن العربي ; أخذا بعموم الأذية للكفار ، ودخولا في الإذن للكل لما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار ; وذلك قوله تعالى : اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه وليخزي الفاسقين .
الخامسة : اختلف في اللينة ما هي ; على أقوال عشرة : الأول : النخل كله إلا العجوة ; قاله الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل . وعن ابن عباس ومجاهد والحسن : أنها النخل كله ، ولم يستثنوا عجوة ولا غيرها . وعن ابن عباس أيضا : أنها لون من النخل . وعن الثوري : أنها كرام النخل . وعن أبي عبيدة : أنها جميع ألوان التمر سوى العجوة والبرني . وقال : إنها العجوة خاصة . وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع جعفر بن محمد نوح عليه السلام في السفينة . والعتيق : الفحل . وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها ; حكاه . وقيل : هي ضرب من النخل يقال لتمره : اللون ، تمره أجود التمر ، [ ص: 11 ] وهو شديد الصفرة ، يرى نواه من خارجه ويغيب فيه الضرس ; النخلة منها أحب إليهم من وصيف . وقيل : هي النخلة القريبة من الأرض . الماوردي
وأنشد الأخفش :
قد شجاني الحمام حين تغنى بفراق الأحباب من فوق لينه
غرسوا لينها بمجرى معين ثم حفوا النخيل بالآجام
طراق الخوافي واقع فوق لينة ندى ليله في ريشه يترقرق
وسالفة كسحوق الليا ن أضرم فيها الغوي السعر
فبإذن الله أي بأمره وليخزي الفاسقين أي ليذل اليهود الكفار به وبنبيه وكتبه .