[ ص: 21 ] فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم لا خلاف أن الذين تبوءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها . والإيمان نصب بفعل غير تبوأ ; لأن التبوء إنما يكون في الأماكن . ومن قبلهم : من صلة تبوأ ، والمعنى : والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين واعتقدوا الإيمان وأخلصوه ; لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ ; كقوله تعالى : فأجمعوا أمركم وشركاءكم أي وادعوا شركاءكم ; ذكره أبو علي وغيرهما . ويكون من باب قوله : علفتها تبنا وماء باردا . ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال : تبوءوا الدار ومواضع الإيمان . ويجوز حمله على ما دل عليه تبوأ ; كأنه قال : لزموا الدار ولزموا الإيمان فلم يفارقوهما . ويجوز أن يكون تبوأ الإيمان على طريق المثل ; كما تقول : تبوأ من بني فلان الصميم . والتبوء : التمكن والاستقرار . وليس يريد أن والزمخشري الأنصار آمنوا قبل المهاجرين ، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم .
الثانية : واختلف أيضا هل هذه الآية مقطوعة مما قبلها أو معطوفة ; فتأول قوم أنها معطوفة على قوله : للفقراء المهاجرين وأن الآيات التي في الحشر كلها معطوفة بعضها على بعض . ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه ; لأن الله تعالى يقول : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا إلى قوله الفاسقين ، فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع . ثم قال : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ; لأنه لم يوجف عليه حين خلوه . وما تقدم فيهم من القتال وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر . ثم قال : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وهذا كلام غير معطوف على الأول . وكذا والذين تبوءوا الدار والإيمان ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم ; فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين ; وكأنه قال ; الفيء للفقراء المهاجرين ; والأنصار يحبون لهم ولم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء . وكذا والذين جاءوا من بعدهم ابتداء كلام ; والخبر : يقولون ربنا اغفر لنا . وقال إسماعيل بن إسحاق : إن قوله والذين تبوءوا الدار والذين جاءوا معطوف على ما قبل ، وأنهم شركاء في الفيء ; أي هذا المال للمهاجرين والذين تبوءوا الدار . وقال : قرأ مالك بن أوس عمر بن الخطاب [ ص: 22 ] رضي الله عنه هذه الآية إنما الصدقات للفقراء فقال : هذه لهؤلاء . ثم قرأ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه فقال : هذه لهؤلاء . ثم قرأ ما أفاء الله على رسوله حتى بلغ للفقراء المهاجرين ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه . وقيل : إنه دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك ، وقال لهم : تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا علي . ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت . فلما غدوا عليه قال : قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة " الحشر " وتلا : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى إلى قوله : للفقراء المهاجرين فلما بلغ قوله : أولئك هم الصادقون قال : ما هي لهؤلاء فقط . وتلا قوله : والذين جاءوا من بعدهم إلى قوله رءوف رحيم ، ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك . والله أعلم .
الثالثة : روى مالك عن عن أبيه زيد بن أسلم عمر قال : لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر . وفي الروايات المستفيضة من الطرق الكثيرة : أن أن عمر أبقى سواد العراق ومصر وما ظهر عليه من الغنائم ; لتكون من أعطيات المقاتلة وأرزاق الحشوة والذراري ، وأن الزبير وبلالا وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم ; فكره ذلك منهم واختلف فيما فعل من ذلك ; فقيل : إنه استطاب أنفس أهل الجيش ; فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين قلة . ومن أبى أعطاه ثمن حظه . فمن قال : إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه قسم خيبر ، لأن اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها . وقيل : إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش . وقيل : إنه تأول في ذلك قول الله سبحانه وتعالى : للفقراء المهاجرين إلى قوله : ربنا إنك رءوف رحيم على ما تقدم . والله أعلم .
الرابعة : واختلف العلماء في ; فقال قسمة العقار مالك : للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين . وقال أبو حنيفة : الإمام مخير بين أن يقسمها أو يجعلها وقفا لمصالح المسلمين . وقال : ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم ، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال . فمن طاب نفسا عن حقه للإمام أن يجعله وقفا عليهم فله . ومن لم تطب نفسه فهو أحق بماله . الشافعي وعمر رضي الله عنه استطاب نفوس الغانمين واشتراها منهم .
[ ص: 23 ] قلت : وعلى هذا يكون قوله : والذين جاءوا من بعدهم مقطوعا مما قبله ، وأنهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم .
الخامسة : قال ابن وهب : سمعت يذكر مالكا المدينة على غيرها من الآفاق فقال : إن فضل المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة ، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ; ثم قرأ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم الآية . وقد مضى الكلام في هذا ، وفي فضل الصلاة في المسجدين : المسجد الحرام ومسجد المدينة ; فلا معنى للإعادة .
السادسة : قوله تعالى : ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره ; كذلك قال الناس . وفيه تقدير حذف مضافين ; المعنى مس حاجة من فقد ما أوتوا . وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة . وكان المهاجرون في دور الأنصار ، فلما غنم عليه الصلاة والسلام أموال بني النضير ، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم ، وإشراكهم في أموالهم . ثم قال : إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبينهم ، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم ، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم . فقال سعد بن عبادة : بل نقسمه بين وسعد بن معاذ المهاجرين ، ويكونون في دورنا كما كانوا . ونادت الأنصار : رضينا وسلمنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار . وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم . ويحتمل أن يريد به ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إذا كان قليلا بل يقنعون به ويرضون عنه . وقد كانوا على هذه الحالة حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دنيا ، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم بحكم الدنيا . وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : . " سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض "
السابعة : قوله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة في الترمذي عن : أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ; فقال لامرأته : نومي الصبية ، وأطفئي السراج ، وقربي للضيف ما عندك ; فنزلت هذه الآية أبي هريرة ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ ص: 24 ] قال : هذا حديث حسن صحيح . خرجه مسلم أيضا . وخرج عن قال : أبي هريرة الأنصار فقال : أنا يا رسول الله . فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : هل عندك شيء ؟ قالت : لا ، إلا قوت صبياني . قال : فعلليهم بشيء ، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل ; فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه . قال : فقعدوا وأكل الضيف . فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " قد عجب الله - عز وجل - من صنيعكما بضيفكما الليلة " . وفي رواية عن جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهود . فأرسل إلى بعض نسائه فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء . ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك ; حتى قلن كلهن مثل ذلك : لا والذي بعثك بالحق ، ما عندي إلا ماء . فقال : " من يضيف هذا الليلة رحمه الله " ، فقام رجل من قال : أبي هريرة الأنصار يقال له أبو طلحة ، فانطلق به إلى رحله . . . ; وساق الحديث بنحو الذي قبله ، وذكر فيه نزول الآية . وذكر جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه . فقال : " ألا رجل يضيف هذا رحمه الله " فقام رجل من المهدوي عن أن هذا نزل في أبي هريرة ورجل من ثابت بن قيس الأنصار - نزل به ثابت - يقال له أبو المتوكل ، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه ; فقال لامرأته : أطفئي السراج ونومي الصبية ; وقدم ما كان عنده إلى ضيفه . وكذا ذكر النحاس قال : قال : نزل برجل من أبو هريرة الأنصار - يقال له أبو المتوكل - ضيفا ، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ; فقال لامرأته : أطفئي السراج ونومي الصبية ; فنزلت ثابت بن قيس ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة إلى قوله : فأولئك هم المفلحون . وقيل : إن فاعل ذلك أبو طلحة . وذكر : وقال القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم ابن عمر : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا ; فبعثه إليهم ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات ، حتى رجعت إلى أولئك ; فنزلت : ويؤثرون على أنفسهم . ذكره الثعلبي عن أنس قال : أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة ، وكان مجهودا فوجه به إلى جار له ، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات ، ثم عاد إلى [ ص: 25 ] الأول ; فنزلت : ويؤثرون على أنفسهم الآية . وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم بني النضير : " إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئا " ، فقالت الأنصار : بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ; فنزلت ويؤثرون على أنفسهم الآية . والأول أصح . وفي الصحيحين عن أنس : قريظة والنضير ، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه . لفظ أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فتحت عليه مسلم . وقال الزهري عن أنس بن مالك : المهاجرون من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء ، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار ، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة ; وكانت أم أنس بن مالك تدعى أم سليم ، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة ، كان أخا لأنس لأمه ; وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا لها ; فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته ، ثم أسامة بن زيد . قال لما قدم ابن شهاب : فأخبرني أنس بن مالك : أهل خيبر وانصرف إلى المدينة ، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم . قال : فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه . خرجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال مسلم أيضا .
الثامنة : : هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية ، ورغبة في الحظوظ الدينية . وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة . يقال : آثرته بكذا ; أي خصصته به وفضلته . ومفعول الإيثار محذوف ; أي يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها ; حسب ما تقدم بيانه . وفي موطأ الإيثار مالك : أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أن مسكينا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف ; فقالت لمولاة لها : أعطيه إياه ; فقالت : ليس لك ما تفطرين عليه ؟ فقالت : أعطيه إياه . قالت : ففعلت . قالت : فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدى لنا : شاة وكفنها . فدعتني عائشة فقالت : كلي من هذا ، فهذا خير من قرصك . قال علماؤنا : هذا من المال الرابح ، والفعل الزاكي عند الله تعالى يعجل منه ما يشاء ، ولا ينقص ذلك مما يدخره عنه . ومن ترك شيئا لله لم يجد فقده . رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم [ ص: 26 ] بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة ، وأن من فعل ذلك فقد وقي شح نفسه وأفلح فلاحا لا خسارة بعده . ومعنى ( شاة وكفنها ) فإن العرب - أو بعض العرب أو بعض وجوههم - كان هذا من طعامهم ، يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه غطوه كله بعجين البر وكفنوه به ثم علقوه في التنور ، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن ; وذلك من طيب الطعام عندهم . وروى وعائشة عن النسائي نافع أن ابن عمر اشتكى ، واشتهى عنبا ، فاشتري له عنقود بدرهم ، فجاء مسكين فسأل ; فقال : أعطوه إياه ; فخالف إنسان فاشتراه بدرهم ، ثم جاء به إلى ابن عمر ، فجاء المسكين فسأل ; فقال : أعطوه إياه ; ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم ، ثم جاء به إليه ; فأراد السائل أن يرجع فمنع . ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه ; لأن ما خرج لله لا يعود فيه . وذكر ابن المبارك قال : أخبرنا محمد بن مطرف قال : حدثنا أبو حازم عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدار : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار ، فجعلها في صرة ثم قال للغلام : اذهب بها إلى ، ثم تلكأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها . فذهب بها الغلام إليه فقال : يقول لك أمير المؤمنين : اجعل هذه في بعض حاجتك . فقال : وصله الله ورحمه ، ثم قال : تعالي يا جارية ، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان ، وبهذه الخمسة إلى فلان ; حتى أنفذها . فرجع الغلام إلى أبي عبيدة بن الجراح عمر ، فأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل ; وقال : اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل ; وتلكأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع ، فذهب بها إليه فقال : يقول لك أمير المؤمنين : اجعل هذه في بعض حاجتك ، فقال : رحمه الله ووصله ، وقال : يا جارية ، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا ، فاطلعت امرأة معاذ فقالت : ونحن والله مساكين فأعطنا . ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها . فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك عمر وقال : إنهم إخوة ! بعضهم من بعض . ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها ، وكان عشرة آلاف ، وكان المنكدر دخل عليها . فإن قيل : وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء ، قيل له : إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه . فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم ، فلم يكونوا بهذه الصفة ، بل كانوا كما قال الله تعالى : والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس . وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك . والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار . وروي . والله أعلم . أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب ، فقال : هذه [ ص: 27 ] صدقة ، فرماه بها وقال : يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس
التاسعة : وإن عاد إلى النفس . ومن الأمثال السائرة : والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال
تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ومن عبارات الصوفية الرشيقة في حد المحبة : أنها الإيثار ، ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام ، آثرته على نفسها فقالت : أنا راودته عن نفسه . وأفضل الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيح أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم . فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله ! لا يصيبونك ! نحري دون نحرك ، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت . وقال أن حذيفة العدوي : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي شيء من الماء - وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته ، فإذا أنا به ، فقلت له : أسقيك ، فأشار برأسه أن نعم ، فإذا أنا برجل يقول : آه ! آه ! فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه ، فإذا هو هشام بن العاص فقلت : أسقيك ؟ فأشار أن نعم . فسمع آخر يقول : آه ! آه ! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات . فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات . فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات . وقال أبو يزيد البسطامي : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ ! قدم علينا حاجا فقال لي : يا أبا يزيد ، ما حد الزهد عندكم ؟ فقلت : إن وجدنا أكلنا ، وإن فقدنا صبرنا . فقال : هكذا كلاب بلخ عندنا . فقلت : وما حد الزهد عندكم ؟ قال : إن فقدنا شكرنا ، وإن وجدنا آثرنا . وسئل : ما حد الزاهد المنشرح صدره ؟ قال ثلاث : تفريق المجموع ، وترك طلب المفقود ، والإيثار عند القوت . وحكي عن ذو النون المصري أبي الحسن الأنطاكي : أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري ، ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام ; فلما رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئا ; إيثارا لصاحبه على نفسه .
العاشرة : قوله تعالى : ولو كان بهم خصاصة الخصاصة : الحاجة التي تختل بها الحال . وأصلها من الاختصاص وهو انفراد بالأمر . فالخصاصة الانفراد بالحاجة ; أي ولو كان بهم فاقة وحاجة . ومنه قول الشاعر : [ ص: 28 ]
أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المقتر
الحادية عشرة : قوله تعالى : ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون الشح والبخل سواء ; يقال : رجل شحيح بين الشح والشح والشحاحة . قال عمرو بن كلثوم :
ترى اللحز الشحيح إذا أمرت عليه لماله فيها مهينا
[ ص: 29 ] قلت : يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : . وقد بيناه في آخر " آل عمران " . وقال " اتقوا الظلم ؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح ؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " كسرى لأصحابه : أي شيء أضر بابن آدم ؟ قالوا : الفقر . فقال كسرى : الشح أضر من الفقر ; لأن الفقير إذا وجد شبع ، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبدا .