الأولى : قوله تعالى : الذي علم بالقلم يعني الخط والكتابة ; أي علم الإنسان الخط بالقلم . وروى سعيد عن قتادة قال : القلم نعمة من الله تعالى عظيمة ، لولا ذلك لم يقم دين ، ولم يصلح عيش . فدل على كمال كرمه سبحانه ، بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على لما فيه من المنافع العظيمة ، التي لا يحيط بها إلا هو . وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ; ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا . وسمي قلما لأنه يقلم ; أي يقطع ، ومنه تقليم الظفر . وقال بعض الشعراء المحدثين يصف القلم : فضل علم الكتابة ،
[ ص: 108 ] فكأنه والحبر يخضب رأسه شيخ لوصل خريدة يتصنع لم لا ألاحظه بعين جلالة
وبه إلى الله الصحائف ترفع
الثانية : صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث قال : أبي هريرة ، . وثبت عنه - عليه السلام - أنه قال : لما خلق الله الخلق كتب في كتابه - فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي ، فقال له : اكتب ، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة ، فهو عنده في الذكر فوق عرشه أول ما خلق الله : القلم .
وفي الصحيح من حديث ابن مسعود : وقال تعالى : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة ، بعث الله إليها ملكا فصورها ، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ، ثم يقول ، يا رب ، أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول : يا رب أجله ، فيقول ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يقول يا رب رزقه ، فيقضي ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده ، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص ، إن عليكم لحافظين كراما كاتبين .
قال علماؤنا : فالأقلام في الأصل ثلاثة : القلم الأول : الذي خلقه الله بيده ، وأمره أن يكتب . والقلم الثاني : أقلام الملائكة ، جعلها الله بأيديهم يكتبون بها المقادير والكوائن والأعمال . والقلم الثالث : أقلام الناس ، جعلها الله بأيديهم ، يكتبون بها كلامهم ، ويصلون بها مآربهم . وفي الكتابة فضائل جمة . والكتابة من جملة البيان ، والبيان مما اختص به الآدمي .
[ ص: 109 ] الثالثة : قال علماؤنا : كانت العرب أقل الخلق معرفة بالكتاب ، وأقل العرب معرفة به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ; صرف عن علمه ; ليكون ذلك أثبت لمعجزته ، وأقوى في حجته ، وقد مضى هذا مبينا في سورة ( العنكبوت ) . وروى حماد بن سلمة عن الزبير بن عبد السلام ، عن أيوب بن عبد الله الفهري ، عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عبد الله بن مسعود لا تسكنوا نساءكم الغرف ، ولا تعلموهن الكتابة " .
قال علماؤنا : وإنما حذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأن في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجل ; وليس في ذلك تحصين لهن ولا تستر . وذلك أنهن لا يملكن أنفسهن حتى يشرفن على الرجل ; فتحدث الفتنة والبلاء ; فحذرهم أن يجعلوا لهن غرفا ذريعة إلى الفتنة . وهو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " " . وذلك أنها خلقت من الرجل ، فنهمتها في الرجل ، والرجل خلقت فيه الشهوة ، وجعلت سكنا له ، فغير مأمون كل واحد منهما في صاحبه . وكذلك تعليم الكتابة ربما كانت سببا للفتنة ، وذلك إذا علمت الكتابة كتبت إلى من تهوى . والكتابة عين من العيون ، بها يبصر الشاهد الغائب ، والخط هو آثار يده . وفي ذلك تعبير عن الضمير بما لا ينطلق به اللسان ، فهو أبلغ من اللسان . فأحب رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن ينقطع عنهن أسباب الفتنة ; تحصينا لهن ، وطهارة لقلوبهن . ليس للنساء خير لهن من ألا يراهن الرجال ، ولا يرين الرجال