قوله تعالى : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين  قوله تعالى : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه  من استفهام في موضع رفع بالابتداء ، ويرغب صلة من . إلا من سفه نفسه في موضع الخبر . وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي ، أي وما يرغب ، قاله النحاس    . والمعنى : يزهد فيها وينأى بنفسه عنها ، أي عن الملة وهي الدين والشرع . إلا من سفه نفسه قال قتادة    : هم اليهود  والنصارى  ، رغبوا عن ملة إبراهيم  واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى . قال الزجاج    : سفه بمعنى جهل ، أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها . وقال أبو عبيدة    : المعنى أهلك نفسه . وحكى ثعلب   والمبرد  أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها . وحكي عن أبي الخطاب  ويونس  أنها لغة . وقال الأخفش    : سفه نفسه أي فعل بها من السفه ما صار به سفيها . وعنه أيضا هي لغة بمعنى سفه ، حكاه المهدوي  ، والأول ذكره  الماوردي    . فأما سفه بضم الفاء فلا يتعدى ، قاله المبرد  وثعلب    . وحكى الكسائي  عن الأخفش  أن المعنى جهل في نفسه ، فحذفت " في " فانتصب . قال الأخفش    : ومثله عقدة النكاح ، أي على عقدة النكاح . وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم : ضرب فلان الظهر والبطن ، أي في الظهر والبطن . الفراء    : هو تمييز . قال ابن بحر    : معناه جهل نفسه وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء ، فيعلم به توحيد الله وقدرته . 
قلت : وهذا هو معنى قول الزجاج  فيفكر في نفسه من يدين يبطش بهما ، ورجلين يمشي عليهما ، وعين يبصر بها ، وأذن يسمع بها ، ولسان ينطق به ، وأضراس تنبت له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام ، ومعدة أعدت لطبخ الغذاء ، وكبد يصعد إليها صفوه ، وعروق ومعابر ينفذ فيها إلى الأطراف ، وأمعاء يرسب إليها ثفل الغذاء ويبرز من أسفل البدن ، فيستدل بهذا على أن له خالقا قادرا عليما حكيما ، وهذا معنى قوله تعالى :   [ ص: 126 ] وفي أنفسكم أفلا تبصرون    . أشار إلى هذا الخطابي رحمه الله تعالى . وسيأتي له مزيد بيان في سورة " والذاريات " إن شاء الله تعالى . 
وقد استدل بهذه الآية من قال : إن شريعة إبراهيم شريعة لنا إلا ما نسخ منها  وهذا كقوله : ملة أبيكم إبراهيم  أن اتبع ملة إبراهيم    . وسيأتي بيانه . 
قوله تعالى : ولقد اصطفيناه في الدنيا   أي اخترناه للرسالة فجعلناه صافيا من الأدناس والأصل في اصطفيناه اصتفيناه ، أبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق . واللفظ مشتق من الصفوة ، ومعناه تخير الأصفى . 
قوله تعالى : وإنه في الآخرة لمن الصالحين  ، الصالح في الآخرة هو الفائز . ثم قيل : كيف جاز تقديم في الآخرة وهو داخل في الصلة ، قال النحاس    : فالجواب أنه ليس التقدير إنه لمن الصالحين في الآخرة ، فتكون الصلة قد تقدمت ، ولأهل العربية فيه ثلاثة أقوال : منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الآخرة ، ثم حذف . وقيل : في الآخرة متعلق بمصدر محذوف ، أي صلاحه في الآخرة . والقول الثالث : أن الصالحين ليس بمعنى الذين صلحوا ; ولكنه اسم قائم بنفسه ، كما يقال الرجل والغلام . 
قلت : وقول رابع أن المعنى وإنه في عمل الآخرة لمن الصالحين ، فالكلام على حذف مضاف . وقال  الحسين بن الفضل    : في الكلام تقديم وتأخير ، مجازه : ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين . وروى  حجاج بن حجاج - وهو حجاج الأسود  ، وهو أيضا حجاج الأحول  المعروف بزق العسل - قال : سمعت معاوية بن قرة  يقول : اللهم إن الصالحين أنت أصلحتهم ورزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم ، اللهم كما أصلحتهم فأصلحنا ، وكما رزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم فارزقنا أن نعمل بطاعتك ، وارض عنا   . 
				
						
						
