فيه عشر مسائل : قوله تعالى :
الأولى : قوله تعالى : فمن لم يجد يعني الهدي ، إما لعدم المال أو لعدم الحيوان ، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده ، آخرها يوم والثلاثة الأيام في الحج عرفة ، هذا قول طاوس ، وروي عن الشعبي وعطاء ومجاهد والحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة وأصحاب الرأي ، حكاه وعمرو بن دينار ابن المنذر . وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة يصومها في إحرامه بالعمرة ; لأنه أحد إحرامي التمتع ، فجاز صوم الأيام فيه كإحرامه [ ص: 371 ] بالحج ، وقال أبو حنيفة أيضا وأصحابه : يصوم قبل يوم التروية يوما ، ويوم التروية ويوم عرفة ، وقال ابن عباس : له أن يصومها منذ يحرم بالحج إلى يوم النحر ; لأن الله تعالى قال : ومالك بن أنس فصيام ثلاثة أيام في الحج فإذا صامها في العمرة فقد أتاه قبل وقته فلم يجزه ، وقال الشافعي : يصومهن ما بين أن يهل بالحج إلى يوم وأحمد بن حنبل عرفة ، وهو قول ابن عمر ، وروي هذا عن وعائشة مالك ، وهو مقتضى قوله في موطئه ، ليكون يوم عرفة مفطرا ، فذلك أتبع للسنة ، وأقوى على العبادة ، وسيأتي ، وعن أحمد أيضا : جائز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم ، وقال الثوري : يصومهن من أول أيام العشر ، وبه قال والأوزاعي عطاء ، وقال عروة : يصومها ما دام بمكة في أيام منى ، وقاله أيضا مالك وجماعة من أهل المدينة .
وأيام منى هي أيام التشريق الثلاثة التي تلي يوم النحر . روى مالك في الموطأ عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول : " الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هديا ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة ، فإن لم يصم صام أيام منى " ، وهذا اللفظ يقتضي صحة الصوم من وقت يحرم بالحج المتمتع إلى يوم عرفة ، وأن ذلك مبدأ ، إما لأنه وقت الأداء وما بعد ذلك من ذلك من أيام منى وقت القضاء ، على ما يقوله أصحاب ، وإما لأن في تقديم الصيام قبل يوم النحر إبراء للذمة ، وذلك مأمور به . والأظهر من المذهب أنها على وجه الأداء ، وإن كان الصوم قبلها أفضل ، كوقت الصلاة الذي فيه سعة للأداء وإن كان أوله أفضل من آخره ، وهذا هو الصحيح وأنها أداء لا قضاء ، فإن قوله [ تعالى ] : الشافعي أيام في الحج يحتمل أن يريد موضع الحج ويحتمل أن يريد أيام الحج ، فإن كان المراد أيام الحج فهذا القول صحيح ; لأن آخر أيام الحج يوم النحر ، ويحتمل أن يكون آخر أيام الحج أيام الرمي ; لأن الرمي عمل من عمل الحج خالصا وإن لم يكن من أركانه ، وإن كان المراد موضع الحج صامه ما دام بمكة في أيام منى ، كما قال عروة ، ويقوى جدا ، وقد قال قوم : له أن يؤخرها ابتداء إلى أيام التشريق ; لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بألا يجد الهدي يوم النحر ، فإن قيل وهي :
الثانية : فقد ذهب جماعة من أهل المدينة في الجديد وعليه أكثر أصحابه إلى أنه لا يجوز والشافعي لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام صوم أيام التشريق منى ، قيل له : إن ثبت النهي فهو عام يخصص منه المتمتع بما ثبت في أن البخاري عائشة كانت تصومها ، وعن ابن عمر قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي ، وقال وعائشة : [ ص: 372 ] إسناده صحيح ، ورواه مرفوعا عن الدارقطني ابن عمر من طرق ثلاثة ضعفها ، وإنما رخص في صومها لأنه لم يبق من أيامه إلا بمقدارها ، وبذلك يتحقق وجوب الصوم لعدم الهدي . قال وعائشة ابن المنذر : وقد روينا عن علي بن أبي طالب أنه قال : إذا فاته الصوم صام بعد أيام التشريق ، وقال الحسن . قال وعطاء ابن المنذر : وكذلك نقول ، وقالت طائفة : إذا فاته الصوم في العشر لم يجزه إلا الهدي . روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد ، وحكاه أبو عمر عن أبي حنيفة وأصحابه عنه ، فتأمله .
الثالثة : أجمع العلماء على أن ، واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدي فصام ثم وجد الهدي قبل إكمال صومه ، فذكر الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدي ابن وهب عن مالك قال : إذا دخل في الصوم ثم وجد هديا فأحب إلي أن يهدي ، فإن لم يفعل أجزاه الصيام ، وقال : يمضي في صومه وهو فرضه ، وكذلك قال الشافعي أبو ثور ، وهو قول الحسن وقتادة ، واختاره ابن المنذر ، وقال أبو حنيفة : إذا أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدي ، وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام لا يرجع إلى الهدي ، وبه قال الثوري وابن أبي نجيح وحماد .
الرابعة : قوله تعالى : وسبعة قراءة الجمهور بالخفض على العطف ، وقرأ زيد بن علي " وسبعة " بالنصب ، على معنى : وصوموا سبعة .
الخامسة : إذا رجعتم يعني إلى بلادكم ، قال ابن عمر وقتادة والربيع ومجاهد ، وقاله وعطاء مالك في كتاب محمد ، وبه قال . قال الشافعي قتادة والربيع : هذه رخصة من الله تعالى ، فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه ، إلا أن يتشدد أحد ، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان ، وقال أحمد وإسحاق : يجزيه الصوم في الطريق ، وروي عن مجاهد . قال وعطاء مجاهد : إن شاء صامها في الطريق ، إنما هي رخصة ، وكذلك قال عكرمة والحسن . والتقدير عند بعض أهل اللغة : إذا رجعتم من الحج ، أي إذا رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل الإحرام من الحل ، وقال مالك في الكتاب : إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم وقال : ( إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا . وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نص ، ولا ظاهر أنه أراد البلاد ، وأنها المراد في الأغلب ) . ابن العربي
قلت : بل فيه ظاهر يقرب إلى النص ، يبينه ما رواه مسلم عن ابن عمر قال : ذي الحليفة ، [ ص: 373 ] وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس : من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله الحديث ، وهذا كالنص في أنه لا يجوز صوم السبعة الأيام إلا في أهله وبلده ، والله أعلم ، وكذا قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى ، فساق معه الهدي من في حديث البخاري ابن عباس : ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي ، كما قال الله تعالى : فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم . . . الحديث وسيأتي . قال النحاس : وكان هذا إجماعا .
السادسة : قوله تعالى : تلك عشرة كاملة يقال : كمل يكمل ، مثل نصر ينصر ، وكمل يكمل ، مثل عظم يعظم ، وكمل يكمل ، مثل حمد يحمد ، ثلاث لغات ، واختلفوا في معنى قوله [ تعالى ] : تلك عشرة وقد علم أنها عشرة ، فقال الزجاج : لما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع بدلا منها ; لأنه لم يقل وسبعة أخرى - أزيل ذلك بالجملة من قوله تلك عشرة ثم قال : كاملة ، وقال الحسن : كاملة في الثواب كمن أهدى ، وقيل : كاملة في البدل عن الهدي ، يعني العشرة كلها بدل عن الهدي ، وقيل : كاملة في الثواب كمن لم يتمتع ، وقيل : لفظها لفظ الإخبار ومعناها الأمر ، أي أكملوها فذلك فرضها ، وقال المبرد : عشرة دلالة على انقضاء العدد ، لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي منه شيء بعد ذكر السبعة ، وقيل : هو توكيد ، كما تقول : كتبت بيدي ، ومنه قول الشاعر :
ثلاث واثنتان فهن خمس وسادسة تميل إلى شمامي
فقوله " خمس " تأكيد ، ومثله قول الآخر :
ثلاث بالغداة فذاك حسي وست حين يدركني العشاء
فذلك تسعة في اليوم ريي وشرب المرء فوق الري داء
السابعة : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أي إنما يجب دم التمتع عن الغريب الذي ليس من حاضري قوله تعالى : المسجد الحرام . خرج " عن البخاري ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال : المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا ، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب ، وقال : من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي ، كما قال الله تعالى : أهل فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم ، الشاة تجزي ، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأباحه للناس غير أهل مكة ، قال الله عز وجل : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام التي ذكر الله عز وجل شوال وذو القعدة وذو الحجة ، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم ، والرفث : الجماع والفسوق : المعاصي ، والجدال : المراء . وأشهر الحج
الثامنة : اللام في قوله لمن بمعنى على ، أي وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة ، كقوله عليه السلام : اشترطي لهم الولاء ، وقوله تعالى : وإن أسأتم فلها أي فعليها ، وذلك إشارة إلى التمتع والقران للغريب عند أبي حنيفة وأصحابه ، لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم . ومن فعل ذلك كان عليه دم جناية لا يأكل منه ; لأنه ليس بدم تمتع . وقال : لهم دم تمتع وقران ، والإشارة ترجع إلى الهدي والصيام ، فلا هدي ولا صيام عليهم ، وفرق الشافعي بين التمتع والقران ، فأوجب الدم في القران وأسقطه في التمتع ، على ما تقدم عنه . عبد الملك بن الماجشون
التاسعة : واختلف الناس في حاضري المسجد الحرام - بعد الإجماع على أن أهل مكة وما اتصل بها من حاضريه ، وقال الطبري : بعد الإجماع على أهل الحرم . قال ابن عطية : وليس كما قال - فقال بعض العلماء : من كان يجب عليه الجمعة فهو حضري ، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي ، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة ، وقال مالك وأصحابه هم أهل مكة [ ص: 375 ] وما اتصل بها خاصة ، وعند أبي حنيفة وأصحابه : هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية ، فمن كان من أهل المواقيت أو من أهل ما وراءها فهم من حاضري المسجد الحرام . وقال وأصحابه : هم من لا يلزمه تقصير الصلاة من موضعه إلى الشافعي مكة ، وذلك أقرب المواقيت ، وعلى هذه الأقوال مذاهب السلف في تأويل الآية .
العاشرة : قوله تعالى : واتقوا الله أي فيما فرضه عليكم ، وقيل : هو أمر بالتقوى على العموم ، وتحذير من شدة عقابه .