وكأنه الضحاك من فتكاته في العالمين وأنت أفريدون
وكان الضحاك طاغيا جبارا ودام ملكه ألف عام فيما ذكروا . وهو أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل ، وللنمروذ ابن لصلبه يسمى ( كوشا ) أو نحو هذا الاسم ، وله ابن يسمى [ ص: 260 ] نمروذ الأصغر . وكان ملك نمروذ الأصغر عاما واحدا ، وكان ملك نمروذ الأكبر أربعمائة عام فيما ذكروا . وفي قصص هذه المحاجة روايتان : إحداهما أنهم خرجوا إلى عيد لهم فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها ، فلما رجعوا قال لهم : أتعبدون ما تنحتون ؟ فقالوا : فمن تعبد ؟ قال : أعبد ربي الذي يحيي ويميت . وقال بعضهم : إن نمروذ كان يحتكر الطعام فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه ، فإذا دخلوا عليه سجدوا له ، فدخل إبراهيم فلم يسجد له ، فقال : ما لك لا تسجد لي! قال : أنا لا أسجد إلا لربي . فقال له نمروذ : من ربك ؟ قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . وذكر أن زيد بن أسلم النمروذ هذا قعد يأمر الناس بالميرة ، فكلما جاء قوم يقول : من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون أنت ، فيقول : ميروهم . وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار فقال له : من ربك وإلهك ؟ قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، فلما سمعها نمروذ قال : أنا أحيي وأميت ، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر ، وقال لا تميروه ، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء فمر على كثيب رمل كالدقيق فقال في نفسه : لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهم ، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلوا يلعبون فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء ، فقالت امرأته : لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه ، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحوارى فخبزته ، فلما قام وضعته بين يديه فقال : من أين هذا ؟ فقالت : من الدقيق الذي سقت . فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك .قلت : وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي صالح قال : انطلق إبراهيم النبي عليه السلام يمتار فلم يقدر على الطعام ، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا : ما هذا ؟ فقال : حنطة حمراء ، ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء ، قال : وكان إذا زرع منها شيئا جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا . وقال الربيع وغيره في هذا القصص : إن النمروذ لما قال أنا أحيي وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر فقال : قد أحييت هذا وأمت هذا ، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت . وروي في الخبر : أن الله تعالى قال وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب ليعلم أني أنا القادر على ذلك . ثم أمر نمروذ بإبراهيم فألقي في النار ، وهكذا عادة الجبابرة فإنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة ، [ ص: 261 ] فأنجاه الله من النار ، على ما يأتي . وقال : إنه لما خرج السدي إبراهيم من النار أدخلوه على الملك - ولم يكن قبل ذلك دخل عليه - فكلمه وقال له : من ربك ؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت . قال النمروذ : أنا أحيي وأميت ، وأنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا وتركت اثنين فماتا . فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت . وذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة لكنه أمر له حقيقة ومجاز ، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة ، وفزع نمروذ إلى المجاز وموه على قومه ، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه ( فبهت الذي كفر ) أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق ؛ لأن ذوي الألباب يكذبونه .
الثانية : هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الله الملك والعز والرفعة في الدنيا ، وتدل على إثبات . وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله ، قال الله تعالى : المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . إن عندكم من سلطان ؛ أي من حجة . وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة ( الأنبياء ) وغيرها . وقال في قصة نوح عليه السلام : قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا الآيات إلى قوله : وأنا بريء مما تجرمون . وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي . فهو كله تعليم من الله عز وجل ؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل . وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم السؤال والجواب والمجادلة في الدين أهل الكتاب وباهلهم بعد الحجة ، على ما يأتي بيانه في ( آل عمران ) . وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة . وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله ، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة ، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده . وفي قول الله عز وجل : فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ؛ دليل على أن مباح شائع لمن تدبر . قال الاحتجاج بالعلم المزني صاحب [ ص: 262 ] : ومن الشافعي أن يراد بها الله عز وجل وأن يقبل منها ما تبين . وقالوا : لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف ، وإلا فهو مراء ومكابرة . حق المناظرة
قراءات - قرأ علي بن أبي طالب " ألم تر " بجزم الراء ، والجمهور بتحريكها ، وحذفت الياء للجزم . أن آتاه الله الملك في موضع نصب ، أي لأن آتاه الله ، أو من أجل أن آتاه الله . وقرأ جمهور القراء " أن أحيي " بطرح الألف التي بعد النون من " أنا " في الوصل ، وأثبتها نافع ، إذا لقيتها همزة في كل القرآن إلا في قوله تعالى : وابن أبي أويس إن أنا إلا نذير فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء لقلة ذلك ، فإنه لم يقع منه في القرآن إلا ثلاثة مواضع أجراها مجرى ما ليس بعده همزة لقلته فحذف الألف في الوصل . قال النحويون : ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون ، فإذا قلت : أنا أو أنه فالألف والهاء لبيان الحركة في الوقف ، فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطتا ؛ لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف ، فلا يقال : أنا فعلت بإثبات الألف إلا شاذا في الشعر كما قال الشاعر :
أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما
أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما