فيه أربع وعشرون مسألة :
الأولى : لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان ، عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب ، وجعل لها الرهن ، ونص من [ ص: 369 ] أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار ، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو ، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر . فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل ، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن . وقد طلب منه سلف الشعير فقال : إنما يريد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي محمد أن يذهب بمالي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء ولو ائتمنني لأديت اذهبوا إليه بدرعي فمات ودرعه مرهونة صلى الله عليه وسلم ، على ما يأتي بيانه آنفا .
الثانية : قال جمهور من العلماء : بنص التنزيل ، وفي الحضر ثابت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا صحيح . وقد بينا جوازه في الحضر من الآية بالمعنى ، إذ قد تترتب الأعذار في الحضر ، ولم يرو عن أحد منعه في الحضر سوى الرهن في السفر مجاهد والضحاك وداود ، متمسكين بالآية . ولا حجة فيها ؛ لأن هذا الكلام وإن كان خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال . وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره . وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة . وأخرجه أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد من حديث النسائي ابن عباس قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير لأهله .
الثالثة : ولم تجدوا كاتبا قرأ الجمهور " كاتبا " بمعنى رجل يكتب . وقرأ قوله تعالى : ابن عباس وأبي ومجاهد والضحاك وعكرمة " ولم تجدوا كتابا " . قال وأبو العالية أبو بكر الأنباري : فسره مجاهد فقال : معناه فإن لم تجدوا مدادا يعني في الأسفار . وروي عن ابن عباس " كتابا " . قال النحاس : هذه القراءة شاذة والعامة على خلافها . وقلما يخرج شيء عن قراءة العامة إلا وفيه مطعن ، ونسق الكلام على كاتب ، قال الله عز وجل قبل هذا : وليكتب بينكم كاتب بالعدل و " كتاب " يقتضي جماعة . قال ابن عطية : كتابا يحسن من حيث لكل نازلة [ ص: 370 ] كاتب ، فقيل للجماعة : ولم تجدوا كتابا . وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ " كتبا " وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة . وأما قراءة أبي " كتابا " فقال وابن عباس النحاس ومكي : هو جمع كاتب كقائم وقيام . مكي : المعنى وإن عدمت الدواة والقلم والصحيفة . ونفي وجود الكاتب يكون بعدم أي آلة اتفق ، ونفي الكاتب أيضا يقتضي نفي الكتاب ، فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف .
الرابعة : فرهان مقبوضة وقرأ قوله تعالى : أبو عمرو وابن كثير " فرهن " بضم الراء والهاء ، وروي عنهما تخفيف الهاء . وقال الطبري : تأول قوم أن " رهنا " بضم الراء والهاء جمع رهان ، فهو جمع جمع ، وحكاه الزجاج عن الفراء . وقال المهدوي : فرهان ابتداء والخبر محذوف . والمعنى فرهان مقبوضة يكفي من ذلك . قال النحاس : وقرأ عاصم بن أبي النجود " فرهن " بإسكان الهاء ، ويروى عن أهل مكة . والباب في هذا " رهان " ، كما يقال : بغل وبغال ، وكبش وكباش ، ورهن سبيله أن يكون جمع رهان ، مثل كتاب وكتب . وقيل : هو جمع رهن ، مثل سقف وسقف ، وحلق وحلق ، وفرش وفرش ، ونشر ونشر ، وشبهه . " ورهن " بإسكان الهاء سبيله أن تكون الضمة حذفت لثقلها . وقيل : هو جمع رهن ، مثل سهم حشر أي دقيق ، وسهام حشر . والأول أولى ؛ لأن الأول ليس بنعت وهذا نعت . وقال أبو علي الفارسي : وتكسير " رهن " على أقل العدد لم أعلمه جاء ، فلو جاء كان قياسه أفعلا ككلب وأكلب ، وكأنهم استغنوا بالقليل عن الكثير ، كما استغني ببناء الكثير عن بناء القليل في قولهم : ثلاثة شسوع ، وقد استغني ببناء القليل عن الكثير في رسن وأرسان ، فرهن يجمع على بناءين وهما فعل وفعال . الأخفش : فعل على فعل قبيح وهو قليل شاذ ، قال : وقد يكون " رهن " جمعا للرهان ، كأنه يجمع رهن على رهان ، ثم يجمع رهان على رهن ، مثل فراش وفرش .
الخامسة : : احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم ، وهكذا حده العلماء ، وهو في كلام العرب بمعنى الدوام والاستمرار . وقال معنى الرهن ابن سيده : ورهنه أي أدامه ، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر :
الخبز واللحم لهم راهن وقهوة راووقها ساكب
قال الجوهري : ورهن الشيء رهنا أي دام . وأرهنت لهم الطعام والشراب أدمته لهم ، وهو طعام راهن . والراهن : الثابت ، والراهن : المهزول من الإبل والناس ، قال :إما تري جسمي خلا قد رهن هزلا وما مجد الرجال في السمن
يطوي ابن سلمة بها من راكب بعرا عيدية أرهنت فيها الدنانير
فلما خشيت أظافيرهم نجوت وأرهنتهم مالكا
السادسة : قال أبو علي : ولما كان الرهن بمعنى الثبوت والدوام ؛ فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى الراهن بوجه من الوجوه ؛ لأنه فارق ما جعل باختيار المرتهن له .
قلت : هذا هو المعتمد عندنا في أن بطل الرهن ، وقاله الرهن متى رجع إلى الراهن باختيار المرتهن أبو حنيفة ، غير أنه قال : إن رجع بعارية أو وديعة لم يبطل . وقال : إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقا لا يبطل حكم القبض المتقدم ، ودليلنا الشافعي فرهان مقبوضة ، فإذا خرج عن يد القابض لم يصدق ذلك اللفظ عليه لغة ، فلا يصدق عليه حكما ، وهذا واضح .
السابعة : ، لقوله تعالى : إذا رهنه قولا ولم يقبضه فعلا لم يوجب ذلك ، حكما فرهان مقبوضة قال : لم يجعل الله الحكم إلا برهن موصوف بالقبض ، فإذا عدمت الصفة وجب أن يعدم الحكم ، وهذا ظاهر جدا . وقالت المالكية : يلزم الرهن بالعقد ويجبر الراهن [ ص: 372 ] على دفع الرهن ليحوزه المرتهن ، لقوله تعالى : الشافعي أوفوا بالعقود وهذا عقد ، وقوله ( بالعهد ) وهذا عهد . وقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم وهذا شرط ، فالقبض عندنا شرط في كمال فائدته . وعندهما شرط في لزومه وصحته .
الثامنة : قوله تعالى : مقبوضة يقتضي بينونة المرتهن بالرهن . وأجمع الناس على صحة ، وكذلك على قبض وكيله . واختلفوا في قبض المرتهن ، فقال قبض عدل يوضع الرهن على يديه مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء : قبض العدل قبض . وقال ابن أبي ليلى وقتادة والحكم : ليس بقبض ، ولا يكون مقبوضا إلا إذا كان عند المرتهن ، ورأوا ذلك تعبدا . وقول الجمهور أصح من جهة المعنى ؛ لأنه إذا صار عند العدل صار مقبوضا لغة وحقيقة ؛ لأن العدل نائب عن صاحب الحق وبمنزلة الوكيل ، وهذا ظاهر . وعطاء
التاسعة : ولو لم يضمن المرتهن ولا الموضوع على يده ؛ لأن المرتهن لم يكن في يده شيء يضمنه . والموضوع على يده أمين والأمين غير ضامن . وضع الرهن على يدي عدل فضاع
العاشرة : لما قال تعالى : ( مقبوضة ) قال علماؤنا : فيه ما يقتضي بظاهره ومطلقه جواز . خلافا رهن المشاع وأصحابه ، لا يجوز عندهم أن يرهنه ثلث دار ولا نصفا من عبد ولا سيف ، ثم قالوا : إذا كان لرجلين على رجل مال هما فيه شريكان فرهنهما بذلك أرضا فهو جائز إذا قبضاها . قال لأبي حنيفة ابن المنذر : وهذا إجازة رهن المشاع ؛ لأن كل واحد منهما مرتهن نصف دار . قال ابن المنذر : رهن المشاع جائز كما يجوز بيعه .
الحادية عشرة : جائز عند علمائنا ؛ لأنه مقبوض خلافا لمن منع ذلك ، ومثاله رجلان تعاملا لأحدهما على الآخر دين فرهنه دينه الذي عليه . قال ورهن ما في الذمة ابن خويزمنداد : ، ولهذه العلة جوزنا رهن ما في الذمة ؛ لأن بيعه جائز ، ولأنه مال تقع الوثيقة به فجاز أن يكون رهنا ، قياسا على سلعة موجودة . وقال من منع ذلك : لأنه لا يتحقق [ ص: 373 ] إقباضه وكل عرض جاز بيعه جاز رهنه ؛ لأنه لابد أن يستوفى الحق منه عند المحل ، ويكون الاستيفاء من ماليته لا من عينه ولا يتصور ذلك في الدين . والقبض شرط في لزوم الرهن
الثانية عشرة : روى عن البخاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . وأخرجه الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة أبو داود وقال بدل ( يشرب ) في الموضعين : ( يحلب ) . قال : هذا كلام مبهم ليس في نفس اللفظ بيان من يركب ويحلب ، الخطابي . هل الراهن أو المرتهن أو العدل الموضوع على يده الرهن ؟
قلت : قد جاء ذلك مبينا مفسرا في حديثين ، وبسببهما اختلف العلماء في ذلك ، فروى من حديث الدارقطني ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة . أخرجه عن إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ، ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته أحمد بن علي بن العلاء حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم حدثنا زكريا عن الشعبي عن . وهو قول أبي هريرة أحمد وإسحاق : أن المرتهن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب بقدر النفقة . وقال أبو ثور : إذا كان الراهن ينفق عليه لم ينتفع به المرتهن . وإن فله ركوبه واستخدام العبد . وقاله كان الراهن لا ينفق عليه وتركه في يد المرتهن فأنفق عليه الأوزاعي . الحديث الثاني خرجه والليث أيضا ، وفي إسناده مقال ويأتي بيانه - من حديث الدارقطني إسماعيل بن عياش عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن المقبري عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . وهو قول لا يغلق الرهن ولصاحبه غنمه وعليه غرمه الشافعي والشعبي . وهو قول وابن سيرين مالك وأصحابه . قال : الشافعي ، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خلا الإحفاظ للوثيقة . قال منفعة الرهن للراهن ، ونفقته عليه : وهو أولى الأقوال وأصحها ، بدليل قوله عليه السلام : الخطابي . قال لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه : وقوله : ( من صاحبه ) : أي لصاحبه . والعرب تضع " من " موضع اللام ، كقولهم ( الخطابي زهير ) :
[ ص: 374 ]
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
قلت : قد جاء صريحا ( لصاحبه ) فلا حاجة للتأويل . وقال : كان ذلك وقت كون الربا مباحا ، ولم ينه عن قرض جر منفعة ، ولا عن أخذ الشيء بالشيء وإن كانا غير متساويين ، ثم حرم الربا بعد ذلك . وقد أجمعت الأمة على أن الطحاوي ، فكذلك لا يجوز له خدمتها . وقد قال الأمة المرهونة لا يجوز للراهن أن يطأها الشعبي : لا ينتفع من الرهن بشيء . فهذا الشعبي روى الحديث وأفتى بخلافه ، ولا يجوز عنده ذلك إلا وهو منسوخ . وقال وقد أجمعوا أن ابن عبد البر . ولا يخلو من أن يكون احتلاب المرتهن له بإذن الراهن أو بغير إذنه ، فإن كان بغير إذنه ففي حديث لبن الرهن وظهره للراهن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ما يرده ويقضي بنسخه . وإن كان بإذنه ففي الأصول المجتمع عليها في تحريم المجهول والغرر وبيع ما ليس عندك وبيع ما لم يخلق ، ما يرده أيضا ، فإن ذلك كان قبل نزول تحريم الربا . والله أعلم . لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنهوقال ابن خويزمنداد : ولو فلذلك حالتان : إن كان من قرض لم يجز ، وإن كان من بيع أو إجارة جاز ؛ لأنه يصير بائعا للسلعة بالثمن المذكور ومنافع الرهن مدة معلومة فكأنه بيع وإجارة ، وأما في القرض فلأنه يصير قرضا جر منفعة ، ولأن موضوع القرض أن يكون قربة ، فإذا دخله نفع صار زيادة في الجنس وذلك ربا . شرط المرتهن الانتفاع بالرهن
الثالثة عشرة : ، وهو أن يشترط المرتهن أنه له بحقه إن لم يأته به عند أجله . وكان هذا من فعل الجاهلية فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( لا يجوز غلق الرهن ) هكذا قيدناه برفع القاف على الخبر ، أي ليس يغلق الرهن . تقول : أغلقت الباب فهو مغلق . وغلق الرهن في يد مرتهنه إذا لم يفتك ، قال الشاعر : لا يغلق الرهن
أجارتنا من يجتمع يتفرق ومن يك رهنا للحوادث يغلق
وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
الخامسة عشرة : : داخل معه إن كان لا يتميز كالسمن ، أو كان نسلا كالولادة والنتاج ، وفي معناه فسيل النخل ، وما عدا ذلك من غلة وثمرة ولبن وصوف فلا يدخل فيه إلا أن يشترطه . والفرق بينهما أن الأولاد تبع في الزكاة للأمهات ، وليس كذلك الأصواف والألبان وثمر الأشجار ؛ لأنها ليست تبعا للأمهات في الزكاة ولا هي في صورها ولا في معناها ولا تقوم معها ، فلها حكم نفسها لا حكم الأصل خلاف الولد والنتاج . والله أعلم بصواب ذلك . نماء الرهن
السادسة عشرة : جائز ما لم يفلس ، ويكون المرتهن أحق [ ص: 376 ] بالرهن من الغرماء ، قاله ورهن من أحاط الدين بماله مالك وجماعة من الناس . وروي عن مالك خلاف هذا - وقاله عبد العزيز بن أبي سلمة - إن الغرماء يدخلون معه في ذلك وليس بشيء ؛ لأن من لم يحجر عليه فتصرفاته صحيحة في كل أحواله من بيع وشراء ، والغرماء عاملوه على أنه يبيع ويشتري ويقضي ، لم يختلف قول مالك في هذا الباب ، فكذلك الرهن . والله أعلم .
السابعة عشرة : فإن أمن بعضكم بعضا الآية شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء وترك المطل . يعني إن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق وثقة فليؤد له ما عليه اؤتمن .
وقوله : ( فليؤد ) من الأداء مهموز ، وهو جواب الشرط ويجوز تخفيف همزه فتقلب الهمزة واوا ولا تقلب ألفا ولا تجعل بين بين ؛ لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا . وهو أمر معناه الوجوب ، بقرينة الإجماع على ، وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه ، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير . وجوب أداء الديون
الثامنة عشرة : قوله تعالى : ( أمانته ) : الأمانة مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة ، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة ، كما قال تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم .
التاسعة عشرة : وليتق الله ربه أي في ألا يكتم من الحق شيئا . قوله تعالى : ولا تكتموا الشهادة تفسير لقوله : " ولا يضارر " بكسر العين . ، وهو نهي على الوجوب بعدة قرائن منها الوعيد . وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق . وقال نهى الشاهد عن أن يضر بكتمان الشهادة ابن عباس : على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ، ويخبر حيثما استخبر ، قال : ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي . وقرأ أبو عبد الرحمن " ولا يكتموا " بالياء ، جعله نهيا للغائب .
الموفية عشرين : إذا ، فإن أداها اثنان واجتزأ الحاكم بهما سقط الفرض عن الباقين ، وإن لم يجتزأ بها تعين المشي إليه حتى يقع الإثبات . وهذا يعلم بدعاء صاحبها ، فإذا قال له : أحيي حقي بأداء ما عندك لي من الشهادة تعين ذلك عليه . كان على الحق شهود تعين عليهم أداؤها على الكفاية
الحادية والعشرون : ومن يكتمها فإنه آثم قلبه خص القلب بالذكر إذ الكتم من أفعاله ، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كله كما قال عليه السلام [ ص: 377 ] فعبر بالبعض عن الجملة ، وقد تقدم في أول السورة . وقال قوله تعالى : الكيا : لما عزم على ألا يؤديها وترك أداءها باللسان رجع المأثم إلى الوجهين جميعا . فقوله آثم قلبه مجاز ، وهو آكد من الحقيقة في الدلالة على الوعيد ، وهو من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني . يقال : إثم القلب سبب مسخه ، والله تعالى إذا مسخ قلبا جعله منافقا وطبع عليه ، نعوذ بالله منه وقد تقدم في أول السورة . و ( قلبه ) رفع ب ( آثم ) و ( آثم ) خبر ، " إن " ، وإن شئت رفعت آثما بالابتداء ، و ( قلبه ) فاعل يسد مسد الخبر والجملة خبر إن . وإن شئت رفعت آثما على أنه خبر الابتداء تنوي به التأخير . وإن شئت كان ( قلبه ) بدلا من ( آثم ) بدل البعض من الكل . وإن شئت كان بدلا من المضمر الذي في ( آثم ) .
وتعرضت هنا ثلاث مسائل تتمة أربع وعشرين :
الأولى : اعلم أن الذي أمر الله تعالى به من ونفي التنازع المؤدي إلى فساد ذات البين ، لئلا يسول له الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حد له الشرع ، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق ، ولأجله حرم الشرع البياعات المجهولة التي اعتيادها يؤدي إلى الاختلاف وفساد ذات البين وإيقاع التضاغن والتباين . فمن ذلك ما حرمه الله من الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله تعالى : الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البين إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر الآية . فمن تأدب بأدب الله في أوامره وزواجره حاز صلاح الدنيا والدين ، قال الله تعالى : ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم الآية .
الثانية : روى عن البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه وروى النسائي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها استدانت ، فقيل : يا أم المؤمنين ، تستدينين وليس عندك وفاء ؟ قالت : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ دينا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عليه . وروى عن الطحاوي وأبو جعفر الطبري في مسنده عن والحارث بن أبي أسامة عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . وروى لا تخيفوا الأنفس بعد أمنها قالوا : يا رسول الله ، وما ذاك ؟ قال : ( الدين ) عن البخاري أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء ذكره : . قال العلماء : ضلع [ ص: 378 ] الدين هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه . وهو مأخوذ من قول العرب : حمل مضلع أي ثقيل ، ودابة مضلع لا تقوى على الحمل ، قاله صاحب العين . وقال صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال الدين شين الدين . وروي عنه أنه قال : الدين هم بالليل ومذلة بالنهار . قال علماؤنا : وإنما كان شينا ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال والهم اللازم في قضائه ، والتذلل للغريم عند لقائه ، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه . وربما يعد من نفسه القضاء فيخلف ، أو يحدث الغريم بسببه فيكذب ، أو يحلف له فيحنث ، إلى غير ذلك . ولهذا . وأيضا فربما قد مات ولم يقض الدين فيرتهن به ، كما قال عليه السلام : كان عليه السلام يتعوذ من المأثم والمغرم ، وهو الدين . فقيل له : يا رسول الله ، ما أكثر ما تتعوذ من المغرم ؟ فقال : إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف . وكل هذه الأسباب مشائن في الدين تذهب جماله وتنقص كماله . والله أعلم نسمة المؤمن مرتهنة في قبره بدينه حتى يقضى عنه
الثالثة : لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصا قاطعا على ، وردا على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك ، فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم ، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم ، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم ، وهذا الفعل مذموم منهي عنه . قال مراعاة حفظ الأموال وتنميتها : ولست أعجب من المتزهدين الذين فعلوا هذا مع قلة علمهم ، إنما أتعجب من أقوام لهم علم وعقل كيف حثوا على هذا ، وأمروا به مع مضادته للشرع والعقل . فذكر أبو الفرج الجوزي المحاسبي في هذا كلاما كثيرا ، وشيده أبو حامد الطوسي ونصره . [ ص: 379 ] والحارث عندي أعذر من أبي حامد ؛ لأن أبا حامد كان أفقه ، غير أن دخوله في التصوف أوجب عليه نصرة ما دخل فيه . قال المحاسبي في كلام طويل له : ولقد بلغني أنه عبد الرحمن بن عوف قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نخاف على عبد الرحمن فيما ترك . فقال كعب : سبحان الله! وما تخافون على عبد الرحمن ؟ كسب طيبا وأنفق طيبا وترك طيبا . فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضبا يريد كعبا ، فمر بلحى بعير فأخذه بيده ، ثم انطلق يطلب كعبا ، فقيل لكعب : إن أبا ذر يطلبك . فخرج هاربا حتى ، دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر . فأقبل أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان ، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هاربا من أبي ذر ، فقال له أبو ذر : يا ابن اليهودية ، تزعم ألا بأس بما تركه عبد الرحمن ! لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا . قال لما توفي المحاسبي : فهذا عبد الرحمن مع فضله يوقف في عرصة يوم القيامة بسبب ما كسبه من حلال ، للتعفف وصنائع المعروف فيمنع السعي إلى الجنة مع الفقراء وصار يحبو في آثارهم حبوا ، إلى غير ذلك من كلامه . ذكره أبو حامد وشيده وقواه بحديث ثعلبة ، وأنه أعطي المال فمنع الزكاة . قال أبو حامد : فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده ، وإن صرف إلى الخيرات ، إذ أقل ما فيه اشتغال الهمة بإصلاحه عن ذكر الله . فينبغي للمريد أن يخرج عن ماله حتى لا يبقى له إلا قدر ضرورته ، فما بقي له درهم يلتفت إليه قلبه فهو محجوب عن الله تعالى . قال الجوزي : وهذا كله خلاف الشرع والعقل ، وسوء فهم المراد بالمال ، وقد شرفه الله وعظم قدره وأمر بحفظه ، إذ جعله قواما للآدمي وما جعل قواما للآدمي الشريف فهو شريف ، فقال تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ونهى جل وعز أن يسلم المال إلى غير رشيد فقال : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم . ، قال ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال لسعد : . وقال : إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة [ ص: 380 ] يتكففون الناس أبي بكر . وقال ما نفعني مال كمال : لعمرو بن العاص . ودعا نعم المال الصالح للرجل الصالح لأنس ، وكان في آخر دعائه : . اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه كعب : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله . فقال : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك . قال وقال الجوزي : هذه الأحاديث مخرجة في الصحاح ، وهي على خلاف ما تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة ، وأن حبسه ينافي التوكل ، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته ، وأن خلقا كثيرا اجتنبوه لخوف ذلك ، وأن جمعه من وجهه ليعز ، وأن سلامة القلب من الافتتان به تقل ، واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخرة يندر ، فلهذا خيف فتنته . فأما كسب المال فإن من اقتصر على كسب البلغة من حلها فذلك أمر لا بد منه وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نظر في مقصوده ، فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود ، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته ، وادخر لحوادث زمانه وزمانهم ، وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب على قصده ، وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات . وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمة لحسن مقاصدهم بجمعه ، فحرصوا عليه وسألوا زيادته . الزبير حضر فرسه أجرى الفرس حتى قام ثم رمى سوطه ، فقال : أعطوه حيث بلغ سوطه . وكان ولما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة يقول في دعائه : اللهم وسع علي . وقال إخوة يوسف : ونزداد كيل بعير . وقال شعيب لموسى : فإن أتممت عشرا فمن عندك [ ص: 381 ] . أيوب لما عوفي نثر عليه رجل من جراد من ذهب ، فأخذ يحثي في ثوبه ويستكثر منه ، فقيل له : أما شبعت ؟ فقال : يا رب فقير يشبع من فضلك ؟ . وهذا أمر مركوز في الطباع . وأما كلام وإن المحاسبي فخطأ يدل على الجهل بالعلم ، وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال . من وضع الجهال وخفيت عدم صحته عنه للحوقه بالقوم . وقد روي بعض هذا وإن كان طريقه لا يثبت ؛ لأن في سنده ابن لهيعة وهو مطعون فيه . قال يحيى : لا يحتج بحديثه . والصحيح في التاريخ أن أبا ذر توفي سنة خمس وعشرين ، توفي سنة اثنتين وثلاثين ، فقد عاش بعد وعبد الرحمن بن عوف أبي ذر سبع سنين . ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع ، ثم كيف تقول الصحابة : إنا نخاف على عبد الرحمن ! أوليس الإجماع منعقدا على إباحة جمع المال من حله ، فما وجه الخوف مع الإباحة ؟ أويأذن الشرع في شيء ثم يعاقب عليه ؟ هذا قلة فهم وفقه . ثم أينكر أبو ذر على عبد الرحمن ، وعبد الرحمن خير من أبي ذر بما لا يتقارب ؟ ثم تعلقه بعبد الرحمن وحده دليل على أنه لم يسبر سير الصحابة ، فإنه قد خلف طلحة ثلاثمائة بهار في كل بهار ثلاثة قناطير . والبهار الحمل . وكان مال الزبير خمسين ألفا ومائتي ألف . وخلف ابن مسعود تسعين ألفا . وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها ولم ينكر أحد منهم على أحد . وأما قوله : " عبد الرحمن يحبو حبوا يوم القيامة " فهذا دليل على أنه ما عرف الحديث ، وأعوذ بالله أن يحبو إن عبد الرحمن في القيامة ، أفترى من سبق وهو أحد العشرة ، المشهود لهم بالجنة ومن أهل بدر والشورى يحبو ؟ ثم الحديث يرويه عمارة بن زاذان ، وقال : ربما اضطرب حديثه . وقال البخاري أحمد : يروي عن أنس أحاديث مناكير ، وقال : لا يحتج به . وقال أبو حاتم الرازي : ضعيف . وقوله : " ترك المال الحلال أفضل من جمعه " ليس كذلك ، ومتى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء . وكان الدارقطني يقول : لا خير فيمن لا يطلب المال ، يقضي به دينه ويصون به عرضه ، فإن مات تركه ميراثا لمن بعده . وخلف سعيد بن المسيب ابن المسيب أربعمائة دينار ، وخلف مائتين ، وكان يقول : المال في هذا الزمان سلاح . وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء ، وإنما تحاماه قوم منهم إيثارا للتشاغل بالعبادات ، وجمع الهم فقنعوا باليسير . فلو قال هذا القائل : إن التقليل منه أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الإثم . سفيان الثوري
[ ص: 382 ] قلت : ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها إباحة القتال دونها وعليها ، قال صلى الله عليه وسلم : . وسيأتي بيانه في " المائدة " إن شاء الله تعالى . من قتل دون ماله فهو شهيد