قوله تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون  
فيه ثلاث مسائل : 
الأولى : قوله تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه   يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة . ويقال : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، إذا قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وابيض وجهه ، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه . ويقال : إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه ، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه . ويقال : ذلك عند قوله تعالى : وامتازوا اليوم أيها المجرمون    . ويقال : إذا كان يوم القيامة يؤمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده ، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم ، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب  والمنافقون ; فيقول الله تعالى للمؤمنين : " من ربكم ؟ " فيقولون : ربنا الله عز وجل فيقول لهم : " أتعرفونه إذا رأيتموه " . فيقولون : سبحانه ! إذا اعترف عرفناه . فيرونه كما شاء الله فيخر المؤمنون سجدا لله تعالى ، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضا ، ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسود وجوههم ; وذلك قوله تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه    . ويجوز " تبيض وتسود " بكسر التائين ; لأنك تقول : ابيضت ، فتكسر التاء كما تكسر الألف ، وهي لغة تميم  وبها قرأ يحيى بن وثاب    . وقرأ الزهري    " يوم تبياض وتسواد " ويجوز كسر التاء أيضا ، ويجوز " يوم يبيض وجوه " بالياء على تذكير الجمع ، ويجوز " أجوه " مثل " أقتت " . وابيضاض الوجوه إشراقها بالنعيم . واسودادها هو ما يرهقها من العذاب الأليم . 
الثانية : واختلفوا في التعيين ; فقال ابن عباس    : تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة . قلت : وقول ابن عباس  هذا رواه مالك بن سليمان الهروي أخو غسان  عن مالك بن أنس   [ ص: 159 ] عن نافع  عن ابن عمر  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قول الله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه  قال : يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة ذكره  أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب .  وقال فيه : منكر من حديث مالك    . قال عطاء    : تبيض وجوه المهاجرين  والأنصار  ، وتسود وجوه بني قريظة  والنضير    . وقال أبي بن كعب    : الذين اسودت وجوههم هم الكفار ، وقيل لهم : أكفرتم بعد إيمانكم لإقراركم حين أخرجتم من ظهر آدم  كالذر . هذا اختيار الطبري    . الحسن    : الآية في المنافقين . قتادة  هي في المرتدين . عكرمة    : هم قوم من أهل الكتاب  كانوا مصدقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد    - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث فلما بعث عليه السلام كفروا به ; فذلك قوله : أكفرتم بعد إيمانكم  وهو اختيار الزجاج    . مالك بن أنس    : هي في أهل الأهواء .  أبو أمامة الباهلي  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : هي في الحرورية    . وفي خبر آخر أنه عليه السلام قال : ( هي في القدرية    ) . روى الترمذي  عن أبي غالب  قال : رأى أبو أمامة  رءوسا منصوبة على باب دمشق  ، فقال أبو أمامة    : كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء ، خير قتلى من قتلوه - ثم قرأ - يوم تبيض وجوه وتسود وجوه  إلى آخر الآية . قلت لأبي أمامة    : أنت سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : لو لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا - حتى عد سبعا - ما حدثتكموه   . قال : هذا حديث حسن . وفي صحيح  البخاري  عن سهل بن سعد  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم   . قال أبو حازم    : فسمعني النعمان بن أبي عياش  فقال : أهكذا سمعت من سهل بن سعد  ؟ فقلت : نعم . فقال : أشهد على  أبي سعيد الخدري  لسمعته وهو يزيد فيها : فأقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي   . وعن  أبي هريرة  أنه كان يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم   [ ص: 160 ] القهقرى   . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة . فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله  فهو من المطرودين عن الحوض المبتعدين منه المسودي الوجوه ، وأشدهم طردا وإبعادا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم ; كالخوارج  على اختلاف فرقها ، والروافض  على تباين ضلالها ، والمعتزلة  على أصناف أهوائها ; فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون ، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم ، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي ، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع ; كل يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بالآية ، والخبر كما بينا ، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان . وقد قال ابن القاسم    : وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء . وكان يقول : تمام الإخلاص تجنب المعاصي . 
الثالثة : قوله تعالى : فأما الذين اسودت وجوههم  في الكلام حذف ، أي فيقال لهم أكفرتم بعد إيمانكم  يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى . ويقال : هذا لليهود  وكانوا مؤمنين بمحمد    - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به . وقال أبو العالية    : هذا للمنافقين ، يقال : أكفرتم في السر بعد إقراركم في العلانية . وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جواب ( أما ) لأن المعنى في قولك : أما زيد فمنطلق ، مهما يكن من شيء فزيد منطلق . 
وقوله تعالى : وأما الذين ابيضت وجوههم  هؤلاء أهل طاعة الله عز وجل والوفاء بعهده . ففي رحمة الله هم فيها خالدون  أي في جنته ودار كرامته خالدون باقون . جعلنا الله منهم وجنبنا طرق البدع والضلالات ، ووفقنا لطريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات . آمين . 
				
						
						
