قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وما كان قولهم " ، وما كان قول الربيين - و "الهاء والميم " من ذكر أسماء الربيين - " إلا أن قالوا " ، يعني : ما كان لهم قول سوى هذا القول ، إذ قتل نبيهم وقوله : " ربنا اغفر لنا ذنوبنا " ، يقول : لم يعتصموا ، إذ قتل نبيهم ، إلا بالصبر على ما أصابهم ، ومجاهدة عدوهم ، وبمسألة [ ص: 272 ] ربهم المغفرة والنصر على عدوهم . ومعنى الكلام : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا . .
وأما "الإسراف " ، فإنه الإفراط في الشيء : يقال منه : "أسرف فلان في هذا الأمر " ، إذا تجاوز مقداره فأفرط .
ومعناه هاهنا : اغفر لنا ذنوبنا : الصغار منها ، وما أسرفنا فيه منها فتخطينا إلى العظام . وكان معنى الكلام : اغفر لنا ذنوبنا ، الصغائر منها والكبائر . كما : -
7987 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قول الله : " وإسرافنا في أمرنا " ، قال : خطايانا .
7988 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإسرافنا في أمرنا " ، خطايانا وظلمنا أنفسنا .
7989 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال : سمعت الضحاك في قوله : " وإسرافنا في أمرنا " ، يعني : الخطايا الكبار .
7990 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم قال : الكبائر .
7991 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن قال : قال ابن جريج ابن عباس : " وإسرافنا في أمرنا ، قال : خطايانا .
7992 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإسرافنا في أمرنا ، يقول : خطايانا . [ ص: 273 ]
وأما قوله : " وثبت أقدامنا " ، فإنه يقول : اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوك وقتالهم ، ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفر منهم ولا يثبت قدمه في مكان واحد لحربهم " وانصرنا على القوم الكافرين " ، يقول : وانصرنا على الذين جحدوا وحدانيتك ونبوة نبيك . .
قال أبو جعفر : وإنما هذا تأنيب من الله عز وجل عباده الذين فروا عن العدو يوم أحد وتركوا قتالهم ، وتأديب لهم . يقول : الله عز وجل : هلا فعلتم إذ قيل لكم : "قتل نبيكم " - كما فعل هؤلاء الربيون ، الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء إذ قتلت أنبياؤهم . فصبرتم لعدوكم صبرهم ، ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم ، فتحاولوا الارتداد على أعقابكم ، كما لم يضعف هؤلاء الربيون ولم يستكينوا لعدوهم ، وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا ، فينصركم الله عليهم كما نصروا ، فإن الله يحب من صبر لأمره وعلى جهاد عدوه ، فيعطيه النصر والظفر على عدوه ؟ . كما : -
7993 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " ، أي : فقولوا كما قالوا ، واعلموا أنما ذلك بذنوب منكم ، واستغفروا كما استغفروا ، وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم ، ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين ، واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم ، واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين . فكل هذا من قولهم قد كان وقد قتل نبيهم ، فلم يفعلوا كما فعلتم .
قال أبو جعفر : والقراءة التي هي القراءة في قوله : ( وما كان قولهم ) النصب لإجماع قرأة الأمصار على ذلك نقلا مستفيضا وراثة عن الحجة . [ ص: 274 ] وإنما اختير النصب في "القول " ، لأن "أن " لا تكون إلا معرفة ، فكانت أولى بأن تكون هي الاسم ، دون الأسماء التي قد تكون معرفة أحيانا ونكرة أحيانا ، ولذلك اختير النصب في كل اسم ولي "كان " إذا كان بعده "أن " الخفيفة : كقوله : ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه ) [ سورة العنكبوت : 24 ] وقوله : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا ) [ سورة الأنعام : 23 ] فأما إذا كان الذي يلي "كان " اسما معرفة ، والذي بعده مثله ، فسواء الرفع والنصب في الذي ولي "كان " . فإن جعلت الذي ولي "كان " هو الاسم ، رفعته ونصبت الذي بعده . وإن جعلت الذي ولي "كان " هو الخبر ، نصبته ورفعت الذي بعده ، وذلك كقوله جل ثناؤه : ( ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى ) [ سورة الروم : 10 ] إن جعلت "العاقبة " الاسم رفعتها ، وجعلت "السوءى " هي الخبر منصوبة . وإن جعلت "العاقبة " الخبر ، نصبت فقلت : "ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى " ، وجعلت "السوءى " هي الاسم ، فكانت مرفوعة ، وكما قال الشاعر :
لقد علم الأقوام ما كان داءها بثهلان إلا الخزي ممن يقودها
وروي أيضا : "ما كان داؤها بثهلان إلا الخزي " ، نصبا ورفعا على ما قد [ ص: 275 ] بينت . ولو فعل مثل ذلك مع "أن " كان جائزا ، غير أن أفصح الكلام ما وصفت عند العرب .