قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : معنى ذلك : وإن خفتم ، يا معشر أولياء اليتامى ، أن لا تقسطوا في صداقهن فتعدلوا فيه ، وتبلغوا بصداقهن صدقات أمثالهن ، فلا تنكحوهن ، ولكن انكحوا غيرهن من الغرائب اللواتي أحلهن الله لكم وطيبهن ، من واحدة إلى أربع ، وإن خفتم أن تجوروا إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة فلا تعدلوا ، فانكحوا منهن واحدة ، أو ما ملكت أيمانكم .
ذكر من قال ذلك :
8456 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، فقالت : يا ابن أختي ، هي اليتيمة تكون في حجر وليها ، فيرغب في مالها وجمالها ، ويريد أن ينكحها بأدنى من سنة صداقها ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما سواهن من النساء .
8457 - حدثني قال : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ابن وهب قال : أخبرني عن يونس بن يزيد ، ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير : أنه سأل عائشة [ ص: 532 ] زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تبارك وتعالى : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، قالت : يا ابن أختي ، هذه اليتيمة ، تكون في حجر وليها تشاركه في ماله ، فيعجبه مالها وجمالها . فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال قال يونس بن يزيد ربيعة في قول الله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، قال يقول : اتركوهن ، فقد أحللت لكم أربعا .
8458 - حدثنا الحسن بن الجنيد وأخبرنا سعيد بن مسلمة قالا . أنبأنا إسماعيل بن أمية ، عن ابن شهاب ، عن عروة قال : سألت عائشة أم المؤمنين فقلت : يا أم المؤمنين ، أرأيت قول الله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء "؟ قالت : يا ابن أختي ، هي اليتيمة تكون في حجر وليها ، فيرغب في جمالها ومالها ، ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة صداق نسائها ، فنهوا عن ذلك : أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا فيكملوا لهن الصداق ، ثم أمروا أن ينكحوا سواهن من النساء إن لم يكملوا لهن الصداق . [ ص: 533 ]
8459 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يونس ، عن ابن شهاب قال : حدثني عروة بن الزبير : أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثل حديث يونس ، عن ابن وهب .
8460 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري عن عروة ، عن عائشة ، مثل حديث ابن حميد ، عن ابن المبارك .
8461 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : نزل تعني قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، الآية في اليتيمة تكون عند الرجل ، وهي ذات مال ، فلعله ينكحها لمالها ، وهي لا تعجبه ، ثم يضربها ، ويسيء صحبتها ، فوعظ في ذلك .
[ ص: 534 ]
قال أبو جعفر : فعلى هذا التأويل ، جواب قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا " ، قوله : " فانكحوا" .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : النهي عن ، حذارا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم . وذلك أن نكاح ما فوق الأربع قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل ، فإذا صار معدما ، مال على مال يتيمه الذي في حجره فأنفقه أو تزوج به . فنهوا عن ذلك ، وقيل لهم : إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها فلا تعدلوا فيها ، من أجل حاجتكم إليها لما يلزمكم من مؤن نسائكم ، [ ص: 535 ] فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربع وإن خفتم أيضا من الأربع أن لا تعدلوا في أموالهم ، فاقتصروا على الواحدة ، أو على ما ملكت أيمانكم .
ذكر من قال ذلك :
8462 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن المثنى محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن سماك قال : سمعت عكرمة يقول في هذه الآية : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، قال : كان الرجل من قريش يكون عنده النسوة ، ويكون عنده الأيتام ، فيذهب ماله ، فيميل على مال الأيتام ، قال : فنزلت هذه الآية : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " .
8463 - حدثنا قال : حدثنا هناد بن السري أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " ، قال : كان الرجل يتزوج الأربع والخمس والست والعشر ، فيقول الرجل : "ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان"؟ فيأخذ مال يتيمه فيتزوج به ، فنهوا أن يتزوجوا فوق الأربع .
8464 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قصر الرجال على أربع من أجل أموال اليتامى .
8465 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، فإن الرجل كان يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى ، فنهى الله عن ذلك .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن القوم كانوا يتحوبون في أموال اليتامى أن لا يعدلوا فيها ، ولا يتحوبون في النساء أن لا يعدلوا فيهن ، فقيل لهم : كما خفتم أن [ ص: 536 ] لا تعدلوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن ، ولا تنكحوا منهن إلا من واحدة إلى الأربع ، ولا تزيدوا على ذلك . وإن خفتم أن لا تعدلوا أيضا في الزيادة على الواحدة ، فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم .
ذكر من قال ذلك :
8466 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا عن ابن علية ، أيوب ، عن سعيد بن جبير قال : كان الناس على جاهليتهم ، إلا أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه ، قال : فذكروا اليتامى ، فنزلت : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " ، قال : فكما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في النساء .
8467 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : ( السدي وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) إلى : "أيمانكم" ، كانوا يشددون في اليتامى ، ولا يشددون في النساء ، ينكح أحدهم النسوة ، فلا يعدل بينهن ، فقال الله تبارك وتعالى : كما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى ، فخافوا في النساء ، فانكحوا واحدة إلى الأربع . فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم .
8468 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا قال : حدثنا يزيد بن زريع سعيد ، عن قتادة قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " حتى بلغ"أدنى ألا تعولوا" ، يقول : كما خفتم الجور في اليتامى وهمكم ذلك ، فكذلك فخافوا في جمع النساء ، وكان الرجل في الجاهلية يتزوج العشرة [ ص: 537 ] فما دون ذلك ، فأحل الله جل ثناؤه أربعا ، ثم صيرهن إلى أربع قوله : " مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " ، يقول ، إن خفت أن لا تعدل في أربع فثلاث ، وإلا فثنتين ، وإلا فواحدة . وإن خفت أن لا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك .
8469 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، يقول : ما أحل لكم من النساء" مثنى وثلاث ورباع " ، فخافوا في النساء مثل الذي خفتم في اليتامى : أن لا تقسطوا فيهن .
8470 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قال : جاء الإسلام والناس على جاهليتهم ، إلا أن يؤمروا بشيء فيتبعوه ، أو ينهوا عن شيء فيجتنبوه ، حتى سألوا عن اليتامى ، فأنزل الله تبارك وتعالى : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " .
8471 - حدثنا المثنى قال : حدثنا قال : حدثنا أبو النعمان عارم حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قال : بعث الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم والناس على أمر جاهليتهم ، إلا أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه ، وكانوا يسألونه عن اليتامى فأنزل الله تبارك وتعالى : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ، قال : فكما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى ، فخافوا أن لا تقسطوا وتعدلوا في النساء .
8472 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، قال : كانوا في الجاهلية ينكحون عشرا من النساء الأيامى ، وكانوا [ ص: 538 ] يعظمون شأن اليتيم ، فتفقدوا من دينهم شأن اليتيم ، وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية ، فقال : " وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ، ونهاهم عما كانوا ينكحون في الجاهلية .
8473 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، كانوا في جاهليتهم لا يرزأون من مال اليتيم شيئا ، وهم ينكحون عشرا من النساء ، وينكحون نساء آبائهم ، فتفقدوا من دينهم شأن النساء ، فوعظهم الله في اليتامى وفي النساء ، فقال في اليتامى : ( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) إلى ( إنه كان حوبا كبيرا ) ووعظهم في شأن النساء فقال : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " الآية ، وقال : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) [ سورة النساء : 22 ] .
8474 - حدثت عن عمار عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " إلى"ما ملكت أيمانكم" ، يقول : فإن خفتم الجور في اليتامى وغمكم ذلك ، فكذلك فخافوا في جمع النساء ، قال : [ ص: 539 ] وكان الرجل يتزوج العشر في الجاهلية فما دون ذلك ، وأحل الله أربعا ، وصيرهم إلى أربع ، يقول : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " ، وإن خفت أن لا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك .
وقال آخرون : معنى ذلك : فكما خفتم في اليتامى ، فكذلك فتخوفوا في النساء أن تزنوا بهن ، ولكن انكحوا ما طاب لكم من النساء .
ذكر من قال ذلك :
8475 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : أخبرنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، يقول : إن تحرجتم في ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيمانا وتصديقا ، فكذلك فتحرجوا من الزنا ، وانكحوا النساء نكاحا طيبا" مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " .
8476 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى اللاتي أنتم ولاتهن ، فلا تنكحوهن ، وانكحوا أنتم ما حل لكم منهن .
ذكر من قال ذلك :
8477 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، عائشة : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " ، قال : نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل ، هو وليها ، ليس لها ولي غيره ، وليس أحد ينازعه فيها ، ولا ينكحها لمالها ، فيضربها ، ويسيء صحبتها . [ ص: 540 ]
8478 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا قال : حدثنا يزيد بن زريع يونس ، عن الحسن في هذه الآية : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم " أي : ما حل لكم من يتاماكم من قراباتكم" مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية ، قول من قال : تأويلها : "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا في النساء ، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن ، من واحدة إلى الأربع ، فإن خفتم الجور في الواحدة أيضا ، فلا تنكحوها ، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم ، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن" .
وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها وخلطها بغيرها من الأموال ، فقال تعالى ذكره : ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ) . ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرجوا فيه ، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرج في أمر النساء ، مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى ، وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيهن ، كما عرفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى ، فقال : انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم ، ما أبحت لكم منهن وحللته ، مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم أيضا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة ، بأن لا تقدروا على إنصافها ، فلا تنكحوها ، [ ص: 541 ] ولكن تسروا من المماليك ، فإنكم أحرى أن لا تجوروا عليهن ، لأنهن أملاككم وأموالكم ، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر ، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور .
ففي الكلام - إذ كان المعنى ما قلنا - متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره . وذلك أن معنى الكلام : وإن خفتم أن لا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها ، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم ، فلا تتزوجوا منهن إلا ما أمنتم معه الجور مثنى وثلاث ورباع ، وإن خفتم أيضا في ذلك فواحدة . وإن خفتم في الواحدة ، فما ملكت أيمانكم فترك ذكر قوله : "فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء" ، بدلالة ما ظهر من قوله تعالى : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " .
فإن قال قائل : فأين جواب قوله : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى "؟
قيل : قوله" فانكحوا ما طاب لكم " ، غير أن المعنى الذي يدل على أن المراد بذلك ما قلنا قوله : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " .
وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى"الإقساط" في كلام العرب : العدل والإنصاف وأن"القسط" : الجور والحيف ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما"اليتامى" ، فإنها جمع لذكران الأيتام وإناثهم في هذا الموضع .
[ ص: 542 ]
وأما قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، فإنه يعني : فانكحوا ما حل لكم منهن ، دون ما حرم عليكم منهن ، كما : -
8479 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، ما حل لكم .
8480 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير في قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، يقول : ما حل لكم .
فإن قال قائل : وكيف قيل : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" ، ولم يقل : "فانكحوا من طاب لكم" ؟ وإنما يقال : "ما" في غير الناس .
قيل : معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه ، وإنما معناه : فانكحوا نكاحا طيبا ، كما : -
8481 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، فانكحوا النساء نكاحا طيبا .
8481 م - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
فالمعني بقوله : " ما طاب لكم " ، الفعل ، دون أعيان النساء وأشخاصهن ، فلذلك قيل"ما" ولم يقل"من" ، كما يقال : "خذ من رقيقي ما أردت" ، إذا عنيت : خذ منهم إرادتك . ولو أردت : خذ الذي تريد منهم ، لقلت : "خذ من رقيقي من أردت منهم" . وكذلك قوله : "أو ما ملكت أيمانكم" ، بمعنى : أو ملك أيمانكم .
[ ص: 543 ]
وإنما معنى قوله : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" ، فلينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث ورباع ، كما قيل : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ) [ سورة النور : 4 ] .
وأما قوله : " مثنى وثلاث ورباع " ، فإنما ترك إجراؤهن ، لأنهن معدولات عن"اثنين" و"ثلاث" و"أربع" ، كما عدل"عمر" عن"عامر" ، و"زفر" عن"زافر" فترك إجراؤه ، وكذلك ، "أحاد" و"ثناء" و"موحد" و"مثنى" و"مثلث" و"مربع" ، لا يجري ذلك كله للعلة التي ذكرت من العدول عن وجوهه . ومما يدل على أن ذلك كذلك ، وأن الذكر والأنثى فيه سواء ، ما قيل في هذه السورة و"سورة فاطر" ، [ 1 ] : "مثنى وثلاث ورباع" يراد به"الجناح" ، و"الجناح" ذكر وأنه أيضا لا يضاف إلى ما يضاف إليه"الثلاثة" و"الثلاث" وأن"الألف واللام" لا تدخله فكان في ذلك دليل على أنه اسم للعدد معرفة ، ولو كان نكرة لدخله"الألف واللام" ، وأضيف كما يضاف"الثلاثة" و"الأربعة" . ومما يبين في ذلك قول تميم بن أبي بن مقبل :
ترى النعرات الزرق تحت لبانه أحاد ومثنى أصعقتها صواهله
[ ص: 544 ]فرد"أحاد ومثنى" ، على"النعرات" وهي معرفة . وقد تجعلها العرب نكرة فتجريها ، كما قال الشاعر :
وإن الغلام المستهام بذكره قتلنا به من بين مثنى وموحد
بأربعة منكم وآخر خامس وساد مع الإظلام في رمح معبد
ومما يبين أن"ثناء" و"أحاد" غير جارية ، قول الشاعر :
ولقد قتلتكم ثناء وموحدا وتركت مرة مثل أمس المدبر
[ ص: 545 ] وقول الشاعر :
منت لك أن تلاقيني المنايا أحاد أحاد في شهر حلال
ولم يسمع من العرب صرف ما جاوز"الرباع" و"المربع" عن جهته . لم يسمع منها"خماس" ولا"المخمس" ، ولا"السباع" ولا"المسبع" ، وكذلك ما فوق"الرباع" إلا في بيت للكميت . فإنه يروى له في"العشرة" ، "عشار" وهو قوله :
فلم يستريثوك حتى رمي ت فوق الرجال خصالا عشارا
يريد : "عشرا ، عشرا" ، يقال : إنه لم يسمع غير ذلك .
وأما قوله : " فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " ، فإن نصب"واحدة" ، بمعنى : فإن خفتم أن لا تعدلوا فيما يلزمكم من العدل ما زاد على الواحدة من النساء عندكم بنكاح ، فيما أوجبه الله لهن عليكم فانكحوا واحدة منهن .
ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالرفع ، كان جائزا ، بمعنى : فواحدة كافية ، أو : فواحدة مجزئة ، كما قال جل ثناؤه : ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ) [ سورة البقرة : 282 ] .
وإن قال لنا قائل : قد علمت أن الحلال لكم من جميع النساء الحرائر ، نكاح أربع ، فكيف قيل : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ، وذلك في العدد تسع؟
قيل : إن تأويل ذلك : فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، إما مثنى إن أمنتم الجور من أنفسكم فيما يجب لهما عليكم وإما ثلاث ، إن لم تخافوا ذلك وإما أربع ، إن أمنتم ذلك فيهن .
يدل على صحة ذلك قوله : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " ، لأن المعنى : [ ص: 547 ] فإن خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة . ثم قال : وإن خفتم أن لا تعدلوا أيضا في الواحدة ، فما ملكت أيمانكم .
فإن قال قائل : فإن أمر الله ونهيه على الإيجاب والإلزام حتى تقوم حجة بأن ذلك على التأديب والإرشاد والإعلام ، وقد قال تعالى ذكره : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، وذلك أمر ، فهل من دليل على أنه من الأمر الذي هو على غير وجه الإلزام والإيجاب؟
قيل : نعم ، والدليل على ذلك قوله : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " . فكان معلوما بذلك أن قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، وإن كان مخرجه مخرج الأمر ، فإنه بمعنى الدلالة على النهي عن نكاح ما خاف الناكح الجور فيه من عدد النساء ، لا بمعنى الأمر بالنكاح ، فإن المعني به : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى ، فتحرجتم فيهن ، فكذلك فتحرجوا في النساء ، فلا تنكحوا إلا ما أمنتم الجور فيه منهن ، ما أحللته لكم من الواحدة إلى الأربع .
وقد بينا في غير هذا الموضع أن العرب تخرج الكلام بلفظ الأمر ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد ، كما قال جل ثناؤه : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) [ سورة الكهف : 29 ] ، وكما قال : ( ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ) [ سورة النحل : 55\ سورة الروم : 34 ] ، فخرج ذلك مخرج الأمر ، والمقصود به التهديد والوعيد والزجر والنهي ، فكذلك قوله : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ، بمعنى النهي : فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء .
وعلى النحو الذي قلنا في معنى قوله : " أو ما ملكت أيمانكم " قال أهل التأويل . [ ص: 548 ]
ذكر من قال ذلك :
8482 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " ، يقول : فإن خفت أن لا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك .
8483 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي أو ما ملكت أيمانكم " ، السراري .
8484 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " ، فإن خفت أن لا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك .
8485 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك ، قوله : " فإن خفتم ألا تعدلوا " ، قال : في المجامعة والحب .