قال تأويل قوله تعالى ( أبو جعفر : إن قال قائل : وما المعنى الذي من أجله ذكر حكم الأبوين مع الإخوة ، وترك ذكر حكمهما مع الأخ الواحد ؟
قلت : اختلاف حكمهما مع الإخوة الجماعة والأخ الواحد ، فكان في إبانة [ ص: 39 ] الله - جل ثناؤه - لعباده حكمهما فيما يرثان من ولدهما الميت مع إخوته ، غنى وكفاية عن أن حكمهما فيما ورثا منه غير متغير عما كان لهما ، ولا أخ للميت ولا وارث غيرهما . إذ كان معلوما عندهم أن كل مستحق حقا بقضاء الله ذلك له ، لا ينتقل حقه الذي قضى به له ربه - جل ثناؤه - عما قضى به له إلى غيره ، إلا بنقل الله ذلك عنه إلى من نقله إليه من خلقه . فكان في فرضه تعالى ذكره للأم ما فرض إذا لم يكن لولدها الميت وارث غيرها وغير والده ولا أخ - الدلالة الواضحة للخلق أن ذلك المفروض وهو ثلث مال ولدها الميت حق لها واجب حتى يغير ذلك الفرض من فرض لها . فلما غير تعالى ذكره ما فرض لها من ذلك مع الإخوة الجماعة ، وترك تغييره مع الأخ الواحد ، علم بذلك أن فرضها غير متغير عما فرض لها إلا في الحال التي غيره فيها من لزم العباد طاعته ، دون غيرها من الأحوال .
ثم اختلف أهل التأويل في عدد الإخوة الذين عناهم الله تعالى ذكره بقوله : " فإن كان له إخوة " .
فقال جماعة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان ، ومن بعدهم من علماء أهل الإسلام في كل زمان : عنى الله - جل ثناؤه - بقوله : فإن كان له إخوة فلأمه السدس اثنين كان الإخوة أو أكثر منهما ، أنثيين كانتا أو كن إناثا ، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكورا ، أو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى . واعتل كثير ممن قال ذلك ، بأن ذلك قالته الأمة عن بيان الله جل [ ص: 40 ] ثناؤه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فنقلته أمة نبيه نقلا مستفيضا قطع العذر مجيئه ، ودفع الشك فيه عن قلوب الخلق وروده .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول : بل عنى الله - جل ثناؤه - بقوله : فإن كان له إخوة ، جماعة أقلها ثلاثة . وكان ينكر أن يكون الله - جل ثناؤه - حجب الأم عن ثلثها مع الأب بأقل من ثلاثة إخوة . فكان يقول في أبوين وأخوين : للأم الثلث ، وما بقي فللأب ، كما قال أهل العلم في أبوين وأخ واحد .
ذكر الرواية عنه بذلك :
8732 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا ابن أبي فديك قال : حدثني ابن أبي ذئب ، عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أنه دخل على عثمان رضي الله عنه فقال : لم صار الأخوان يردان الأم إلى السدس ، وإنما قال الله : فإن كان له إخوة ، والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان رحمه الله هل أستطيع نقض أمر كان قبلي ، وتوارثه الناس ومضى في الأمصار ؟ [ ص: 41 ] قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن المعني بقوله : فإن كان له إخوة - اثنان من إخوة الميت فصاعدا ، على ما قاله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، لنقل الأمة وراثة صحة ما قالوه من ذلك عن الحجة ، وإنكارهم ما قاله ابن عباس في ذلك .
فإن قال قائل : وكيف قيل في الأخوين " إخوة " وقد علمت أن ل " الأخوين " في منطق العرب مثالا لا يشبه مثال " الإخوة " في منطقها ؟
قيل : إن ذلك وإن كان كذلك ، فإن من شأنها التأليف بين الكلامين يتقارب معنياهما ، وإن اختلفا في بعض وجوههما . فلما كان ذلك كذلك ، وكان مستفيضا في منطقها منتشرا مستعملا في كلامها : " ضربت من عبد الله وعمرو رءوسهما ، وأوجعت منهما ظهورهما " وكان ذلك أشد استفاضة في منطقها من أن يقال : " أوجعت منهما ظهريهما " وإن كان مقولا " أوجعت ظهريهما " كما قال : الفرزدق
بما في فؤادينا من الشوق والهوى فيبرأ منهاض الفؤاد المشعف
[ ص: 42 ] غير أن ذلك وإن كان مقولا فأفصح منه : " بما في أفئدتنا " كما قال - جل ثناؤه - : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) [ سورة التحريم : 4 ] .فلما كان ما وصفت من إخراج كل ما كان في الإنسان واحدا إذا ضم إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر فصارا اثنين من اثنين ، بلفظ الجميع - أفصح في منطقها وأشهر في كلامها وكان " الأخوان " شخصين ، كل واحد منهما غير صاحبه ، من نفسين مختلفين ، أشبه معنياهما معنى ما كان في الإنسان من [ ص: 43 ] أعضائه واحدا لا ثاني له ، فأخرج اثناهما بلفظ اثني العضوين اللذين وصفت ، فقيل " إخوة " في معنى " الأخوين " كما قيل " ظهور " في معنى " الظهرين " و " أفواه " في معنى " فموين " و " قلوب " في معنى " قلبين " .
وقد قال بعض النحويين : إنما قيل " إخوة " لأن أقل الجمع اثنان . وذلك أن ذلك ضم شيء إلى شيء صارا جميعا بعد أن كانا فردين ، فجمعا ليعلم أن الاثنين جمع .
قال أبو جعفر : وهذا وإن كان كذلك في المعنى ، فليس بعلة تنبئ عن جواز إخراج ما قد جرى الكلام مستعملا مستفيضا على ألسن العرب لاثنيه بمثال وصورة غير مثال ثلاثة فصاعدا منه وصورتها . لأن من قال : " أخواك قاما " فلا شك أنه قد علم أن كل واحد من " الأخوين " فرد ضم أحدهما إلى الآخر فصارا جميعا بعد أن كانا شتى . غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فلا تستجيز العرب في كلامها أن يقال : " أخواك قاموا " فيخرج قولهم " قاموا " وهو لفظ للخبر عن الجميع ، خبرا عن " الأخوين " وهما بلفظ الاثنين . لأن كل ما جرى به الكلام على ألسنتهم معروفا عندهم بمثال وصورة ، إذا غيره مغير عما قد عرفوه فيهم ، [ ص: 44 ] نكروه . فكذلك " الأخوان " وإن كان مجموعين ضم أحدهما إلى صاحبه ، فلهما مثال في المنطق وصورة غير مثال الثلاثة منهم فصاعدا وصورتهم . فغير جائز أن يغير أحدهما إلى الآخر إلا بمعنى مفهوم . وإذا كان ذلك كذلك ، فلا قول أولى بالصحة مما قلنا قبل .
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : ولم نقصت الأم عن ثلثها بمصير إخوة الميت معها اثنين فصاعدا ؟
قيل : اختلفت العلماء في ذلك .
فقال بعضهم : نقصت الأم عن ذلك دون الأب ، لأن على الأب مؤنهم دون أمهم .
ذكر من قال ذلك :
8733 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا قال : حدثنا يزيد بن زريع سعيد ، عن قتادة قوله : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس ، أضروا بالأم ولا يرثون ، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ، ويحجبها ما فوق ذلك . وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم من [ ص: 45 ] الثلث لأن أباهم يلي نكاحهم والنفقة عليهم دون أمهم .
وقال آخرون : بل نقصت الأم السدس ، وقصر بها على سدس واحد ، معونة لإخوة الميت بالسدس الذي حجبوا أمهم عنه .
ذكر من قال ذلك :
8734 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : السدس الذي حجبته الإخوة الأم - لهم ، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أمهم .
وقد روي عن ابن عباس خلاف هذا القول ، وذلك ما :
8735 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عن عمرو بن دينار ، الحسن بن محمد ، عن ابن عباس قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .
قال أبو جعفر : وأولى ذلك بالصواب أن يقال في ذلك : إن الله تعالى ذكره فرض للأم مع الإخوة السدس ، لما هو أعلم به من مصلحة خلقه وقد يجوز أن يكون ذلك كان لما ألزم الآباء لأولادهم وقد يجوز أن يكون ذلك لغير ذلك . وليس ذلك مما كلفنا علمه ، وإنما أمرنا بالعمل بما علمنا .
وأما الذي روي عن طاوس عن ابن عباس ، فقول لما عليه الأمة مخالف . وذلك أنه لا خلاف بين الجميع : أن لا ميراث لأخي ميت مع والده . فكفى إجماعهم على خلافه شاهدا على فساده .