[ ص: 484 ] إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ) القول في تأويل قوله (
قال أبو جعفر : هذا وعيد من الله - جل ثناؤه - للذين أقاموا على تكذيبهم بما أنزل الله على محمد من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر الكفار وبرسوله . يقول الله لهم : إن الذين جحدوا ما أنزلت على رسولي محمد - صلى الله عليه وسلم - من آياتي يعني : من آيات تنزيله ، ووحي كتابه وهي دلالاته وحججه على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يصدقوا به من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر أهل الكفر به : " سوف نصليهم نارا " يقول : سوف ننضجهم في نار يصلون فيها أي يشوون فيها : " كلما نضجت جلودهم "يقول : كلما انشوت بها جلودهم فاحترقت " بدلناهم جلودا غيرها " يعني : غير الجلود التي قد نضجت فانشوت كما : -
9833 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن ثوير ، عن ابن عمر : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها قال : إذا احترقت جلودهم بدلناهم جلودا بيضا أمثال القراطيس .
9834 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها : [ ص: 485 ] يقول : كلما احترقت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها .
9835 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " كلما نضجت جلودهم " قال : سمعنا أنه مكتوب في الكتاب الأول : جلد أحدهم أربعون ذراعا ، وسنه سبعون ذراعا ، وبطنه لو وضع فيه جبل وسعه . فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلودا غيرها .
9836 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك قال : بلغني عن الحسن : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها قال : ننضجهم في اليوم سبعين ألف مرة .
9837 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو عبيدة الحداد ، عن ، عن هشام بن حسان الحسن قوله : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها قال : تنضج النار كل يوم سبعين ألف جلد . قال : وغلظ جلد الكافر أربعون ذراعا ، والله أعلم بأي ذراع .
قال أبو جعفر : فإن سأل سائل فقال : وما كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ؟ وهل يجوز أن يبدلوا جلودا غير جلودهم التي كانت لهم في الدنيا ، فيعذبوا فيها ؟ فإن جاز ذلك عندك فأجز أن يبدلوا أجساما وأرواحا غير أجسامهم وأرواحهم التي كانت لهم في الدنيا فتعذب ، وإن أجزت ذلك لزمك أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار غير الذين أوعدهم الله العقاب على كفرهم به ومعصيتهم إياه ، وأن يكون الكفار قد ارتفع عنهم العذاب [ ص: 486 ] معنى قوله - جل ثناؤه - :
قيل : إن الناس اختلفوا في معنى ذلك .
فقال بعضهم : العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم ، وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب . وأما الجلد واللحم فلا يألمان . قالوا : فسواء أعيد على الكافر جلده الذي كان له في الدنيا أو جلد غيره ؛ إذ كانت الجلود غير آلمة ولا معذبة ، وإنما الآلمة المعذبة النفس التي تحس الألم ، ويصل إليها الوجع . قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، فغير مستحيل أن يخلق لكل كافر في النار في كل لحظة وساعة من الجلود ما لا يحصى عدده ، ويحرق ذلك عليه ؛ ليصل إلى نفسه ألم العذاب إذ كانت الجلود لا تألم .
وقال آخرون : بل الجلود تألم واللحم وسائر أجزاء جسم بني آدم . وإذا أحرق جلده أو غيره من أجزاء جسده ، وصل ألم ذلك إلى جميعه . قالوا : ومعنى قوله : " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها " بدلناهم جلودا غير محترقة ؛ وذلك أنها تعاد جديدة ، والأولى كانت قد احترقت فأعيدت غير محترقة ، فلذلك قيل : غيرها ؛ لأنها غير الجلود التي كانت لهم في الدنيا التي عصوا الله وهى لهم . قالوا : وذلك نظير قول العرب للصائغ إذا استصغته خاتما من خاتم مصوغ بتحويله عن صياغته التي هو بها إلى صياغة أخرى : صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره ، فيكسره ويصوغ له منه خاتما غيره ، والخاتم المصوغ بالصياغة الثانية هو الأول ولكنه لما أعيد بعد كسره خاتما قيل : هو غيره . قالوا : فكذلك معنى قوله : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها : لما [ ص: 487 ] احترقت الجلود ثم أعيدت جديدة بعد الاحتراق قيل : هي غيرها على ذلك المعنى .
وقال آخرون : معنى ذلك : كلما نضجت جلودهم : سرابيلهم ، بدلناهم سرابيل من قطران غيرها . فجعلت السرابيل من القطران لهم جلودا كما يقال للشيء الخاص بالإنسان : هو جلدة ما بين عينيه ووجهه ؛ لخصوصه به . قالوا : فكذلك سرابيل القطران التي قال الله في كتابه : ( سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) [ سورة إبراهيم : 50 ] لما صارت لهم لباسا لا تفارق أجسامهم جعلت لهم جلودا فقيل : كلما اشتعل القطران في أجسامهم واحترق بدلوا سرابيل من قطران آخر . قالوا : وأما جلود أهل الكفر من أهل النار فإنها لا تحترق ؛ لأن في احتراقها إلى حال إعادتها فناءها ، وفي فنائها راحتها . قالوا : وقد أخبر الله - تعالى ذكره - عنها : أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم من عذابها . قالوا : وجلود الكفار أحد أجسامهم ، ولو جاز أن يحترق منها شيء فيفنى ثم يعاد بعد الفناء في النار جاز ذلك في جميع أجزائها . وإذا جاز ذلك وجب أن يكون جائزا عليهم الفناء ، ثم الإعادة والموت ، ثم الإحياء ، وقد أخبر الله عنهم أنهم لا يموتون . قالوا : وفي خبره عنهم أنهم لا يموتون دليل واضح أنه لا يموت شيء من أجزاء أجسامهم ، والجلود أحد تلك الأجزاء .
وأما معنى قوله : " ليذوقوا العذاب " فإنه يقول : فعلنا ذلك بهم ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدته ؛ بما كانوا في الدنيا يكذبون آيات الله ويجحدونها .