[ ص: 518 ] القول في تأويل قوله ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ( 65 ) )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " فلا " فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك ، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويصدون عنك إذا دعوا إليك يا محمد واستأنف القسم - جل ذكره - فقال : " وربك " يا محمد " لا يؤمنون " أي : لا يصدقون بي وبك وبما أنزل إليك " حتى يحكموك فيما شجر بينهم " يقول : حتى يجعلوك حكما بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم ، فالتبس عليهم حكمه . يقال : شجر يشجر شجورا وشجرا ، وتشاجر القوم : إذا اختلفوا في الكلام والأمر مشاجرة وشجارا .
" ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت " يقول : لا يجدوا في أنفسهم ضيقا مما قضيت . وإنما معناه : ثم لا تحرج أنفسهم مما قضيت أي : لا تأثم بإنكارها ما قضيت ، وشكها في طاعتك ، وأن الذي قضيت به بينهم حق لا يجوز لهم خلافه ، كما : -
9908 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " حرجا مما قضيت " قال : شكا .
9909 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : " حرجا مما قضيت " يقول : شكا . [ ص: 519 ]
9910 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
9911 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت قال : إثما " ويسلموا تسليما " يقول : ويسلموا لقضائك وحكمك إذعانا منهم بالطاعة ، وإقرارا لك بالنبوة تسليما .
واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية ، وفيمن نزلت ؟
فقال بعضهم : نزلت في وخصم له من الزبير بن العوام الأنصار اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور .
ذكر الرواية بذلك :
9912 - حدثني قال : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ابن وهب قال : أخبرني يونس ، عن والليث بن سعد ابن شهاب ، أن عروة بن الزبير حدثه : أن عبد الله بن الزبير حدثه ، : أنه خاصم رجلا من الزبير بن العوام الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلأهما النخل ، فقال الأنصاري : سرح الماء يمر فأبى عليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك ، فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 520 ] ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، ثم أرسل الماء إلى جارك . واستوعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه . قال عن أبو جعفر : والصواب استوعب . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له وللأنصاري . فلما أحفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصاري استوعب للزبير حقه في صريح الحكم ، قال فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية . [ ص: 521 ]
9913 - حدثني يعقوب قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري عن عروة قال : الزبير رجل من الأنصار في شرج من شراج الحرة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا زبير ، أشرب ، ثم خل سبيل الماء ، فقال الذي من الأنصار من بني أمية : اعدل يا نبي الله ، وإن كان ابن عمتك ، قال : فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عرف [ ص: 522 ] أن قد ساءه ما قال : ثم قال : يا زبير ، احبس الماء إلى الجدر أو : إلى الكعبين ثم خل سبيل الماء . قال : ونزلت : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم . خاصم
9914 - حدثني عبد الله بن عمير الرازي قال : حدثنا عبد الله بن الزبير قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا ، عن عمرو بن دينار سلمة رجل من ولد أم سلمة ، أم سلمة : أن الزبير خاصم رجلا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير ، فقال الرجل لما قضى للزبير : أن كان ابن عمتك ، فأنزل الله : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " [ ص: 523 ] . عن
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في المنافق واليهودي اللذين وصف الله صفتهما في قوله : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " .
ذكر من قال ذلك :
9915 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما قال : هذا الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف . [ ص: 524 ]
9916 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
9917 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ، عن ابن علية داود ، عن الشعبي بنحوه إلا أنه قال : إلى الكاهن .
قال أبو جعفر : وهذا القول - أعني قول من قال عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " - أولى بالصواب ؛ لأن قوله : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " في سياق قصة الذين ابتدأ الله الخبر عنهم بقوله : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك : ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم ، فإلحاق بعض ذلك ببعض ، ما لم تأت دلالة على انقطاعه أولى .
فإن ظن ظان أن في الذي روي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الأنصاري في شراج الحرة ، وقول من قال في خبرهما : فنزلت فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ما ينبئ عن انقطاع حكم هذه الآية وقصتها من قصة الآيات قبلها ، فإنه غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في قصة المحتكمين إلى الطاغوت ، ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاري إذ كانت الآية دلالة دالة وإذ كان ذلك غير مستحيل كان إلحاق معنى [ ص: 525 ] بعض ذلك ببعض أولى ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد ، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض ، فيعدل به عن معنى ما قبله .
وأما قوله : " ويسلموا " فإنه منصوب عطفا على قوله : " ثم لا يجدوا في أنفسهم " وقوله : " ثم لا يجدوا في أنفسهم " نصب عطفا على قوله : " حتى يحكموك فيما شجر بينهم " .