القول في تأويل قوله ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة )
قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : حيثما تكونوا ينلكم الموت فتموتوا ، " ولو كنتم في بروج مشيدة " يقول : لا تجزعوا من الموت ولا تهربوا من القتال ، وتضعفوا عن لقاء عدوكم حذرا على أنفسكم من القتل والموت ، فإن الموت [ ص: 552 ] بإزائكم أين كنتم ، وواصل إلى أنفسكم حيث كنتم ، ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : " ولو كنتم في بروج مشيدة " .
فقال بعضهم يعنى به : قصور محصنة .
ذكر من قال ذلك :
9957 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولو كنتم في بروج مشيدة " يقول : في قصور محصنة .
9958 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل أبو همام قال : حدثنا كثير أبو الفضل ، عن مجاهد قال : كان فيمن كان قبلكم امرأة وكان لها أجير ، فولدت جارية . فقالت لأجيرها : اقتبس لنا نارا ، فخرج فوجد بالباب رجلا فقال له الرجل : ما ولدت هذه المرأة ؟ قال : جارية . قال : أما إن هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمئة ، ويتزوجها أجيرها ، ويكون موتها بالعنكبوت . قال : فقال الأجير في نفسه : فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمئة ، فأخذ شفرة فدخل فشق بطن الصبية . وعولجت فبرئت ، فشبت ، وكانت تبغي ، فأتت ساحلا من سواحل البحر ، فأقامت عليه تبغي ، ولبث الرجل ما شاء الله ، ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير ، فقال لامرأة من أهل الساحل : ابغيني امرأة من أجمل امرأة في القرية أتزوجها ، فقالت : ههنا امرأة من أجمل الناس ، ولكنها تبغي . قال : ائتيني بها ، فأتتها فقالت : قد قدم رجل له مال كثير ، وقد قال لي : كذا ، فقلت له : كذا ، فقالت : إني قد تركت البغاء ، ولكن إن أراد تزوجته ، قال : فتزوجها ، فوقعت منه موقعا ، فبينا هو يوما عندها إذ أخبرها بأمره ، فقالت : أنا تلك الجارية ، وأرته الشق في بطنها ، وقد كنت [ ص: 553 ] أبغي ، فما أدري بمئة أو أقل أو أكثر . قال : فإنه قال لي : يكون موتها بعنكبوت . قال : فبنى لها برجا بالصحراء وشيده . فبينما هما يوما في ذلك البرج ، إذا عنكبوت في السقف فقالت : هذا يقتلني ؟ لا يقتله أحد غيري فحركته فسقط ، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدخته ، وساح سمه بين ظفرها واللحم ، فاسودت رجلها فماتت . فنزلت هذه الآية : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " .
9959 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن : ابن جريج ولو كنتم في بروج مشيدة ، قال : قصور مشيدة .
وقال آخرون معنى ذلك : قصور بأعيانها في السماء .
ذكر من قال ذلك :
9960 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : السدي أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة : وهي قصور بيض في سماء الدنيا مبنية .
9961 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع في قوله : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة : يقول : ولو كنتم في قصور في السماء . [ ص: 554 ]
واختلف أهل العربية في معنى المشيدة .
فقال بعض أهل البصرة منهم : المشيدة : الطويلة . قال : وأما المشيد : بالتخفيف فإنه المزين .
وقال آخر منهم نحو ذلك القول غير أنه قال : المشيد بالتخفيف : المعمول بالشيد ، والشيد : الجص .
وقال بعض أهل الكوفة : المشيد والمشيد أصلهما واحد غير أن ما شدد منه فإنما يشدد لنفسه ، والفعل فيه في جمع مثل قولهم : هذه ثياب مصبغة وغنم مذبحة فشدد ; لأنها جمع يفرق فيها الفعل . وكذلك مثله قصور مشيدة ؛ لأن القصور كثيرة تردد فيها التشييد ، ولذلك قيل : بروج مشيدة ، ومنه قوله : وغلقت الأبواب ، وكما يقال : كسرت العود : إذا جعلته قطعا أي : قطعة بعد قطعة . وقد يجوز في ذلك التخفيف ، فإذا أفرد من ذلك الواحد فكان الفعل يتردد فيه ويكثر تردده في جمع منه جاز التشديد عندهم والتخفيف ، فيقال منه : هذا ثوب مخرق ، وجلد مقطع ؛ لتردد الفعل فيه وكثرته بالقطع والخرق ، وإن كان الفعل لا يكثر فيه ولا يتردد ، ولم يجيزوه إلا بالتخفيف ، وذلك نحو قولهم : رأيت كبشا مذبوحا ، ولا يجيزون فيه : مذبحا ؛ لأن الذبح لا يتردد فيه تردد التخرق في الثوب .
وقالوا : فلهذا قيل : قصر مشيد ؛ لأنه واحد فجعل بمنزلة قولهم : [ ص: 555 ] " كبش مذبوح . وقالوا : جائز في القصر أن يقال : قصر مشيد بالتشديد ؛ لتردد البناء فيه والتشييد ، ولا يجوز ذلك في كبش مذبوح ؛ لما ذكرنا .