قال أبو جعفر يعني بذلك - جل ثناؤه - ولولا إنعام الله عليكم - أيها المؤمنون - بفضله وتوفيقه ورحمته ، فأنقذكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين الذين يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرهم بأمر : " طاعة " فإذا برزوا من عنده بيت طائفة منهم غير الذي يقول لكنتم مثلهم ، فاتبعتم الشيطان إلا قليلا كما اتبعه هؤلاء الذين وصف صفتهم .
وخاطب بقوله - تعالى ذكره - : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان : الذين خاطبهم بقوله - جل ثناؤه - ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ) [ سورة النساء : 71 ] .
ثم اختلف أهل التأويل في " القليل " الذين استثناهم في هذه الآية : من هم ؟ ومن أي شيء من الصفات استثناهم ؟
فقال بعضهم : هم المستنبطون من أولي الأمر ، استثناهم من قوله : " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " ، ونفى عنهم أن يعلموا بالاستنباط ما يعلم به غيرهم من المستنبطين من الخبر الوارد عليهم من الأمن أو الخوف .
ذكر من قال ذلك :
10007 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، [ ص: 575 ] عن قتادة قال : إنما هو : لعلمه الذين يستنبطونه منهم " إلا قليلا منهم " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان " .
10008 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا : يقول : لاتبعتم الشيطان كلكم . وأما قوله : " إلا قليلا " ، فهو كقوله : " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " إلا قليلا .
10009 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن سعيد ، عن قتادة : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا قال يقول : لاتبعتم الشيطان كلكم . وأما " إلا قليلا " فهو كقوله : لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا .
10010 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن نحوه ، يعني نحو قول ابن جريج قتادة وقال : لعلموه إلا قليلا .
وقال آخرون : بل هم الطائفة الذين وصفهم الله أنهم يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " طاعة " فإذا برزوا من عنده بيتوا غير الذي قالوا . ومعنى الكلام : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا منهم .
ذكر من قال ذلك :
10011 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا : فهو في أول الآية لخبر المنافقين قال : " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به " يعني ب " القليل " المؤمنين ، [ كقوله تعالى : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما ) [ ص: 576 ] [ سورة الكهف : 221 ] يقول : الحمد لله الذي أنزل الكتاب عدلا قيما ، ولم يجعل له عوجا .
10012 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : هذه الآية مقدمة ومؤخرة ، إنما هي : أذاعوا به إلا قليلا منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير .
وقال آخرون : بل ذلك استثناء من قوله : " لاتبعتم الشيطان " . وقالوا : الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا هموا بما كان الآخرون هموا به من اتباع الشيطان . فعرف الله الذين أنقذهم من ذلك موقع نعمته منهم ، واستثنى الآخرين الذين لم يكن منهم في ذلك ما كان من الآخرين .
ذكر من قال ذلك :
10013 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول : في قوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا قال : هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان إلا طائفة منهم .
وقال آخرون معنى ذلك : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا . [ ص: 577 ] قالوا : وقوله : " إلا قليلا " خرج مخرج الاستثناء في اللفظ ، وهو دليل على الجميع والإحاطة ، وأنه لولا فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحد من الضلالة ، فجعل قوله : " إلا قليلا " دليلا على الإحاطة ، واستشهدوا على ذلك بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب :
أشم كثير يدي النوال ، قليل المثالب والقادحة
قالوا : فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب ، ومعلوم أن معناه أنه لا مثالب فيه ولا معايب ؛ لأن من وصف رجلا بأن فيه معايب - وإن وصف الذي فيه من المعايب بالقلة - فإنما ذمه ولم يمدحه . ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب عنه . قالوا : فكذلك قوله : " لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " إنما معناه : لاتبعتم جميعكم الشيطان .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال : عنى باستثناء " القليل " من " الإذاعة " وقال : معنى الكلام : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا ولو ردوه إلى الرسول .
وإنما قلنا إن ذلك أولى بالصواب ؛ لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد الأقوال التي ذكرنا ، وغير جائز أن يكون من قوله : " لاتبعتم الشيطان " ؛ لأن من تفضل الله عليه بفضله ورحمته فغير جائز أن يكون من تباع الشيطان . [ ص: 578 ]
وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب ، ولنا إلى حمل ذلك على الأغلب من كلام العرب سبيل ، فنوجهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون معنى ذلك : لاتبعتم الشيطان جميعا ، ثم زعم أن قوله : " إلا قليلا " دليل على الإحاطة بالجميع ، هذا مع خروجه من تأويل أهل التأويل .
وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله : " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " ؛ لأن علم ذلك إذا رد إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، فبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولو الأمر منهم بعد وضوحه لهم استوى في علم ذلك كل مستنبط حقيقته ، فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم وخصوص بعضهم بعلمه ، مع استواء جميعهم في علمه .
وإذ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا ، ودخل هذه الأقوال الثلاثة ما بينا من الخلل ، فبين أن الصحيح من القول في ذلك هو الرابع ، وهو القول الذي قضينا له بالصواب من الاستثناء من " الإذاعة " .