القول في تأويل قوله ( واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين    ( 108 ) ) 
قال أبو جعفر   : يقول - تعالى ذكره - : وخافوا الله ، أيها الناس ، وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة ، وأن تذهبوا بها مال من يحرم عليكم ماله ، وأن تخونوا من اتمنكم " واسمعوا " يقول : اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به ، فاعملوا به ، وانتهوا إليه " والله لا يهدي القوم الفاسقين " يقول : والله لا يوفق من فسق عن أمر ربه ، فخالفه وأطاع الشيطان وعصى ربه . 
وكان ابن زيد  يقول : " الفاسق " في هذا الموضع ، هو الكاذب . 
12983 - حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد   : " والله لا يهدي القوم الفاسقين   " الكاذبين ، يحلفون على الكذب  .  [ ص: 207 ] 
وليس الذي قال ابن زيد  من ذلك عندي بمدفوع ، إلا أن الله - تعالى ذكره - عم الخبر بأنه لا يهدي جميع الفساق ، ولم يخصص منهم بعضا دون بعض بخبر ولا عقل ، فذلك على معاني " الفسق " كلها ، حتى يخصص شيئا منها ما يجب التسليم له ، فيسلم له . 
ثم اختلف أهل العلم في حكم هاتين الآيتين ، هل هو منسوخ ، أو هو محكم ثابت؟ 
فقال بعضهم : هو منسوخ 
ذكر من قال ذلك : 
12984 - حدثنا أبو كريب  قال : ثنا ابن إدريس  ، عن رجل قد سماه ، عن حماد  ، عن إبراهيم  قال : هي منسوخة . 
12985 - حدثني محمد بن سعد  قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس  قال : هي منسوخة يعني هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم   " الآية . 
وقال جماعة : هي محكمة وليست بمنسوخة . وقد ذكرنا قول أكثرهم فيما مضى . 
قال أبو جعفر   : والصواب من القول في ذلك أن حكم الآية غير منسوخ وذلك أن من حكم الله - تعالى ذكره - الذي عليه أهل الإسلام ، من لدن بعث الله - تعالى ذكره - نبيه محمدا   - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا ، أن من ادعي عليه  [ ص: 208 ] دعوى مما يملكه بنو آدم ، أن المدعى عليه لا يبرئه مما ادعي عليه إلا اليمين ، إذا لم يكن للمدعي بينة تصحح دعواه وأنه إن اعترف في يد المدعى عليه سلعة له ، فادعى أنها له دون الذي في يده ، فقال الذي هي في يده : " بل هي لي ، اشتريتها من هذا المدعي " أن القول قول من زعم الذي هي في يده أنه اشتراها منه ، دون من هي في يده مع يمينه ، إذا لم يكن للذي هي في يده بينة تحقق به دعواه الشراء منه . 
فإذ كان ذلك حكم الله الذي لا خلاف فيه بين أهل العلم ، وكانت الآيتان اللتان ذكر الله - تعالى ذكره - فيهما أمر وصية الموصي إلى عدلين من المسلمين ، أو إلى آخرين من غيرهم ، إنما ألزم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيما ذكر عنه ، الوصيين اليمين حين ادعى عليهما الورثة ما ادعوا ، ثم لم يلزم المدعى عليهما شيئا إذ حلفا ، حتى اعترفت الورثة في أيديهما ما اعترفوا من الجام أو الإبريق أو غير ذلك من أموالهم ، فزعما أنهما اشترياه من ميتهم ، فحينئذ ألزم النبي - صلى الله عليه وسلم - ورثة الميت اليمين ، لأن الوصيين تحولا مدعيين بدعواهما ما وجدا في أيديهما من مال الميت أنه لهما ، اشتريا ذلك منه ، فصارا مقرين بالمال للميت ، مدعيين منه الشراء ، فاحتاجا حينئذ إلى بينة تصحح دعواهما ، وصارت ورثة الميت رب السلعة ، أولى باليمين منهما . فذلك قوله - تعالى ذكره - : " فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما   " الآية .  [ ص: 209 ] 
فإذ كان تأويل ذلك كذلك ، فلا وجه لدعوى مدع أن هذه الآية منسوخة ، لأنه غير جائز أن يقضى على حكم من أحكام الله - تعالى ذكره - أنه منسوخ ، إلا بخبر يقطع العذر : إما من عند الله ، أو من عند رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، أو بورود النقل المستفيض بذلك . فأما ولا خبر بذلك ، ولا يدفع صحته عقل ، فغير جائز أن يقضى عليه بأنه منسوخ . 
				
						
						
