قال أبو جعفر : وهذا تقريع من الله جل ثناؤه العادلين به الأوثان من عبدة الأصنام ، الذين بحروا البحائر ، وسيبوا السوائب ، ووصلوا الوصائل وتعليم منه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، الحجة عليهم في تحريمهم ما حرموا من ذلك . فقال للمؤمنين به وبرسوله : وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، ومن الأنعام أنشأ حمولة وفرشا . ثم بين جل ثناؤه " الحمولة " و " الفرش " ، فقال : ( ثمانية أزواج ) .
وإنما نصب " الثمانية " ؛ لأنها ترجمة عن " الحمولة " و " الفرش " ، وبدل منها . كأن معنى الكلام : ومن الأنعام أنشأ ثمانية أزواج فلما قدم قبل " الثمانية " " الحمولة " و " الفرش " بين ذلك بعد فقال : ( ثمانية أزواج ) ، على ذلك المعنى .
( من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، فذلك أربعة ؛ لأن كل واحد من الاثنين من الضأن زوج ، فالأنثى منه زوج الذكر ، والذكر منه زوج الأنثى ، وكذلك ذلك من المعز ومن سائر الحيوان . فلذلك قال جل ثناؤه : ( ثمانية أزواج ) ، كما قال : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) ، [ سورة الذاريات : 49 ] ؛ لأن الذكر زوج الأنثى ، والأنثى زوج الذكر ، فهما وإن كانا اثنين فيهما زوجان ، كما قال جل ثناؤه : ( وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) ، [ سورة الأعراف : 189 ] ، وكما قال : ( أمسك عليك زوجك ) ، [ سورة الأحزاب : 37 ] ، وكما : -
14067 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن [ ص: 184 ] الضحاك : ( من الضأن اثنين ) ، ذكر وأنثى ، ( ومن البقر اثنين ) ، ذكر وأنثى ( ومن الإبل اثنين ) ، ذكر وأنثى .
ويقال للاثنين : " هما زوج " ، كما قال لبيد :
من كل محفوف يظل عصيه زوج عليه كلة وقرامها
ثم قال لهم : كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار واللحوم ، واركبوا هذه الحمولة ، أيها المؤمنون ، فلا تتبعوا خطوات الشيطان في تحريم ما حرم هؤلاء الجهلة بغير أمري إياهم بذلك .
قل ، يا محمد ، لهؤلاء الذين حرموا ما حرموا من الحرث والأنعام اتباعا للشيطان ، من عبدة الأوثان والأصنام الذين زعموا أن الله حرم عليهم ما هم محرمون من ذلك : آلذكرين حرم ربكم ، أيها الكذبة على الله ، من الضأن والمعز ؟ فإنهم إن ادعوا ذلك وأقروا به ، كذبوا أنفسهم وأبانوا جهلهم ؛ لأنهم إذا قالوا : " يحرم الذكرين من ذلك " ، أوجبوا تحريم كل ذكرين من ولد الضأن والمعز ، وهم يستمتعون بلحوم الذكران منها وظهورها . وفي ذلك فساد دعواهم وتكذيب قولهم ( أم الأنثيين ) ، فإنهم إن قالوا : " حرم ربنا الأنثيين " ، أوجبوا تحريم لحوم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم وظهورها . وفي ذلك أيضا تكذيب لهم ، ودحض دعواهم أن ربهم حرم ذلك عليهم ، إذ كانوا يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره ( أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، يقول : أم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، يعني أرحام أنثى الضأن وأنثى المعز ، [ ص: 185 ] فلذلك قال : " أرحام الأنثيين " ، وفي ذلك أيضا لو أقروا به فقالوا : " حرم علينا ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين " ، بطول قولهم وبيان كذبهم ؛ لأنهم كانوا يقرون بإقرارهم بذلك أن الله حرم عليهم ذكور الضأن والمعز وإناثها ، أن يأكلوا لحومها أو يركبوا ظهورها ، وقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها .
و " ما " التي في قوله : ( أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، نصب عطفا بها على " الأنثيين " .
( نبئوني بعلم ) ، يقول : قل لهم : خبروني بعلم ذلك على صحته : أي ذلك حرم ربكم عليكم ، وكيف حرم ؟ ( إن كنتم صادقين ) ، فيما تنحلونه ربكم من دعواكم ، وتضيفونه إليه من تحريمكم .
وإنما هذا إعلام من الله جل ثناؤه نبيه أن كل ما قاله هؤلاء المشركون في ذلك وأضافوه إلى الله ، فهو كذب على الله ، وأنه لم يحرم شيئا من ذلك ، وأنهم إنما اتبعوا في ذلك خطوات الشيطان ، وخالفوا أمره .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
14068 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) الآية ، إن كل هذا لم أحرم منه قليلا ولا كثيرا ، ذكرا ولا أنثى .
14069 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، قال : سلهم : [ ص: 186 ] ( آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، أي : لم أحرم من هذا شيئا ( بعلم إن كنتم صادقين ) ، فذكر من الإبل والبقر نحو ذلك .
14070 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( ثمانية أزواج ) ، في شأن ما نهى الله عنه من البحيرة .
14071 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج مجاهد قوله : ( ثمانية أزواج ) ، قال : هذا في شأن ما نهى الله عنه من البحائر والسيب قال يقول : من أين حرمت هذا ؟ من قبل الذكرين أم من قبل الأنثيين ، أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ؟ وإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى ، فمن أين جاء التحريم ؟ فأجابوا هم : وجدنا آباءنا كذلك يفعلون . ابن جريج
14072 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ، ومن البقر اثنين ومن الإبل اثنين ، يقول : أنزلت لكم ثمانية أزواج من هذا الذي عددت ، ذكر وأنثى ، فالذكرين حرمت عليكم أم الأنثيين ، أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ؟ يقول : أي : ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، ما تشتمل إلا على ذكر أو أنثى ، فما حرمت عليكم ذكرا ولا أنثى من الثمانية . إنما ذكر هذا من أجل ما حرموا من الأنعام . السدي
14073 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ، عن ابن علية أبي رجاء ، عن الحسن : ( أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، قال : ما حملت الرحم .
14074 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( قل آلذكرين حرم أم الأنثيين ) ، قال : هذا لقولهم : ( ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ) . قال : وقال ابن زيد في [ ص: 187 ] قوله : ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، قال : " الأنعام " ، هي الإبل والبقر والضأن والمعز ، هذه " الأنعام " التي قال الله : " ثمانية أزواج " . قال : وقال في قوله : ( هذه أنعام وحرث حجر ) ، نحتجرها على من نريد ، وعمن نريد . وقوله : ( وأنعام حرمت ظهورها ) ، قال : لا يركبها أحد ( وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) ، فقال : ( آلذكرين حرم أم الأنثيين ) ، أي هذين حرم على هؤلاء ؟ أي : أن تكون لهؤلاء حلا وعلى هؤلاء حراما .
14075 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، يعني : هل تشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى ؟ فهل يحرمون بعضا ويحلون بعضا ؟ .
14076 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، فهذه أربعة أزواج ( ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين ) ، يقول : لم أحرم شيئا من ذلك ( نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ) ، يقول : كله حلال .
و " الضأن " جمع لا واحد له من لفظه ، وقد يجمع " الضأن " ، " الضئين والضئين " ، مثل " الشعير " و " الشعير " ، كما يجمع " العبد " على " عبيد ، وعبيد " . وأما الواحد من ذكوره ف " ضائن " ، والأنثى " ضائنة " ، وجمع " الضائنة " " ضوائن " . [ ص: 188 ]
وكذلك " المعز " ، جمع على غير واحد ، وكذلك " المعزى " ، وأما " الماعز " ، فجمعه " مواعز " .