القول في وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ( 39 ) ) تأويل قوله (
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله : وإن يعد هؤلاء لحربك ، فقد رأيتم سنتي فيمن قاتلكم منهم يوم بدر ، وأنا عائد بمثلها فيمن حاربكم منهم ، فقاتلوهم حتى لا يكون شرك ، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو " الفتنة " " ويكون الدين [ ص: 538 ] كله لله " ، يقول : حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره . * * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
16076 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، يعني : حتى لا يكون شرك .
16077 - حدثني المثنى قال ، حدثنا قال ، أخبرنا عمرو بن عون هشيم ، عن يونس ، عن الحسن في قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : " الفتنة " ، الشرك .
16078 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، يقول : قاتلوهم حتى لا يكون شرك " ويكون الدين كله لله " ، حتى يقال : " لا إله إلا الله " ، عليها قاتل نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وإليها دعا .
16079 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن : " السدي وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : حتى لا يكون شرك .
16080 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا ، عن مبارك بن فضالة الحسن في قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : حتى لا يكون بلاء . [ ص: 539 ]
16081 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال : " ابن جريج وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " ، أي : لا يفتن مؤمن عن دينه ، ويكون التوحيد لله خالصا ليس فيه شرك ، ويخلع ما دونه من الأنداد .
16082 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : حتى لا يكون كفر " ويكون الدين كله لله " ، لا يكون مع دينكم كفر .
16083 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أبان العطار قال ، حدثنا ، عن أبيه : أن هشام بن عروة كتب إليه يسأله عن أشياء ، فكتب إليه عبد الملك بن مروان عروة : " سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو . أما بعد ، فإنك كتبت إلي تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، وسأخبرك به ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، أن الله أعطاه النبوة ، فنعم النبي ! ونعم السيد ! ونعم العشيرة ! فجزاه الله خيرا ، وعرفنا وجهه في الجنة ، وأحيانا على ملته ، وأماتنا عليها ، وبعثنا عليها . وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنزل عليه ، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه ، وكادوا [ ص: 540 ] يسمعون له ، حتى ذكر طواغيتهم . وقدم ناس من الطائف من قريش ، لهم أموال ، أنكر ذلك ناس ، واشتدوا عليه ، وكرهوا ما قال ، وأغروا به من أطاعهم ، فانصفق عنه عامة الناس فتركوه ، إلا من حفظه الله منهم ، وهم قليل . فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث ، ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم ، فكانت فتنة شديدة الزلزال ، فافتتن من افتتن ، وعصم الله من شاء منهم . فلما فعل ذلك بالمسلمين ، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة . وكان بالحبشة ملك صالح يقال له " النجاشي " ، لا يظلم أحد بأرضه ، وكان يثنى عليه مع ذلك [ صلاح ] ، وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش ، يتجرون فيها ، ومساكن لتجارهم يجدون فيها رفاغا من الرزق وأمنا ومتجرا حسنا ، فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة ، وخاف عليهم الفتن . ومكث هو فلم يبرح . فمكث ذلك [ ص: 541 ] سنوات يشتدون على من أسلم منهم . ثم إنه فشا الإسلام فيها ، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم . فلما رأوا ذلك ، استرخوا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه . وكانت الفتنة الأولى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أرض الحبشة ، مخافتها ، وفرارا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال . فلما استرخي عنهم ، ودخل في الإسلام من دخل منهم ، تحدث باسترخائهم عنهم . فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قد استرخي عمن كان منهم بمكة ، وأنهم لا يفتنون . فرجعوا إلى مكة ، وكادوا يأمنون بها ، وجعلوا يزدادون ، ويكثرون . وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير ، وفشا بالمدينة الإسلام ، وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة . فلما رأت ذلك قريش ، تذامرت على أن يفتنوهم ويشتدوا عليهم ، فأخذوهم ، وحرصوا على أن يفتنوهم ، فأصابهم جهد شديد . [ ص: 542 ] وكانت الفتنة الآخرة . فكانت ثنتين : فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة ، حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، وأذن لهم في الخروج إليها وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة . ثم إنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبا ، رؤوس الذين أسلموا ، فوافوه بالحج ، فبايعوه بالعقبة ، وأعطوه عهودهم على أنا منك وأنت منا ، وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا ، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا . فاشتدت عليهم قريش عند ذلك . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة ، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ، وخرج هو ، وهي التي أنزل الله فيها : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " .
16084 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عروة بن الزبير : أنه كتب إلى الوليد : " أما بعد ، فإنك كتبت إلي تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، وعندي ، [ ص: 543 ] بحمد الله ، من ذلك علم بكل ما كتبت تسألني عنه ، وسأخبرك إن شاء الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم ذكر نحوه .
16085 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا قيس ، عن الأعمش ، عن مجاهد : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : " يساف " و" نائلة " ، صنمان كانا يعبدان . * * *
وأما قوله : " فإن انتهوا " ، فإن معناه : فإن انتهوا عن الفتنة ، وهي الشرك بالله ، وصاروا إلى الدين الحق معكم " فإن الله بما يعملون بصير " ، يقول : فإن الله لا يخفى عليه ما يعملون من ترك الكفر والدخول في دين الإسلام ، لأنه يبصركم ويبصر أعمالكم ، والأشياء كلها متجلية له ، لا تغيب عنه ، ولا [ ص: 544 ] يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين . * * *
وقد قال بعضهم : معنى ذلك ، فإن انتهوا عن القتال . * * *
قال أبو جعفر : والذي قلنا في ذلك أولى بالصواب ، لأن المشركين وإن انتهوا عن القتال ، فإنه كان فرضا على المؤمنين قتالهم حتى يسلموا .