قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ( وإما تخافن ) ، يا محمد ، من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد ، أن ينكث عهده ، وينقض عقده ، ويغدر بك وذلك هو "الخيانة" والغدر ( فانبذ إليهم على سواء ) ، يقول : فناجزهم بالحرب ، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم ، بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة منهم ، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب ، فيأخذوا للحرب آلتها ، وتبرأ من الغدر ( إن الله لا يحب الخائنين ) ، الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به فيحاربه ، قبل إعلامه إياه أنه له حرب ، وأنه قد فاسخه العقد .
فإن قال قائل : وكيف يجوز نقض العهد بخوف الخيانة ، و"الخوف" ظن لا يقين؟
قيل : إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبت ، وإنما معناه : إذا ظهرت أمار الخيانة من عدوك ، وخفت وقوعهم بك ، فألق إليهم مقاليد السلم وآذنهم بالحرب . وذلك كالذي كان من بني قريظة إذ أجابوا أبا سفيان ومن معه من [ ص: 26 ] المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم معهم ، بعد العهد الذي كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسالمة ، ولن يقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت إجابتهم إياه إلى ذلك ، موجبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه منهم ، فكذلك حكم كل قوم أهل موادعة للمؤمنين ، ظهر لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريظة منها ، فحق على إمام المسلمين أن ينبذ إليهم على سواء ، ويؤذنوهم بالحرب .
ومعنى قوله : ( على سواء ) ، أي : حتى يستوي علمك وعلمهم بأن كل فريق منكم حرب لصاحبه لا سلم .
وقيل : نزلت الآية في قريظة .
ذكر من قال ذلك :
16221 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فانبذ إليهم على سواء ) ، قال : قريظة .
وقد كان بعضهم يقول : "السواء" ، في هذا الموضع ، المهل .
ذكر من قال ذلك :
16222 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا قال : إنه مما تبين لنا أن قوله : ( الوليد بن مسلم فانبذ إليهم على سواء ) ، أنه : على مهل كما حدثنا بكير ، عن مقاتل بن حيان في قول الله : ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ، [ ص: 27 ] [ التوبة : 1 - 2 ]
وأما أهل العلم بكلام العرب ، فإنهم في معناه مختلفون .
فكان بعضهم يقول : معناه : فانبذ إليهم على عدل يعني : حتى يعتدل علمك وعلمهم بما عليه بعضكما لبعض من المحاربة ، واستشهدوا لقولهم ذلك بقول الراجز :
واضرب وجوه الغدر الأعداء حتى يجيبوك إلى السواء
وكان آخرون يقولون : معناه : الوسط ، من قول حسان :
يا ويح أنصار الرسول ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد
وكذلك هذه المعاني متقاربة ، لأن "العدل" ، وسط لا يعلو فوق الحق ولا يقصر عنه ، وكذلك "الوسط" عدل ، واستواء علم الفريقين فيما عليه بعضهم لبعض بعد المهادنة ، عدل من الفعل ووسط . وأما الذي قاله من أن معناه : "المهل" ، فمما لا أعلم له وجها في كلام العرب . [ ص: 28 ] الوليد بن مسلم