القول في وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ( 61 ) ) تأويل قوله (
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإما تخافن من قوم خيانة وغدرا ، فانبذ إليهم على سواء وآذنهم بالحرب ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ، وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب ، إما بالدخول في الإسلام ، وإما بإعطاء الجزية ، وإما بموادعة ، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح ( فاجنح لها ) ، يقول : فمل إليها ، وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه .
يقال منه : "جنح الرجل إلى كذا يجنح إليه جنوحا" ، وهي لتميم وقيس ، فيما ذكر عنها ، تقول : "يجنح" ، بضم النون ، وآخرون : يقولون : "يجنح" بكسر النون ، وذلك إذا مال ، ومنه قول نابغة بني ذبيان :
جوانح قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى الجمعان أول غالب
جوانح : موائل . [ ص: 41 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
16245 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وإن جنحوا للسلم ) قال : للصلح ، ونسخها قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) [ سورة التوبة : 5 ]
16246 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وإن جنحوا للسلم ) ، إلى الصلح ( فاجنح لها ) ، قال : وكانت هذه قبل "براءة" ، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يوادع القوم إلى أجل ، فإما أن يسلموا ، وإما أن يقاتلهم ، ثم نسخ ذلك بعد في "براءة" فقال : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، وقال : ( قاتلوا المشركين كافة ) ، [ سورة التوبة : 36 ] ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده ، وأمره بقتالهم حتى يقولوا "لا إله إلا الله" ويسلموا ، وأن لا يقبل منهم إلا ذلك . وكل عهد كان في هذه السورة وفي غيرها ، وكل صلح يصالح به المسلمون المشركين يتوادعون به ، فإن "براءة" جاءت بنسخ ذلك ، فأمر بقتالهم على كل حال حتى يقولوا : "لا إله إلا الله" .
16247 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ، عن يحيى بن واضح الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ، نسختها الآية التي في "براءة" قوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) ، إلى قوله : ( وهم صاغرون ) [ سورة التوبة : 29 ] [ ص: 42 ]
16248 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : ( السدي وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ، يقول : وإن أرادوا الصلح فأرده .
16249 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ، أي : إن دعوك إلى السلم ، إلى الإسلام ، فصالحهم عليه .
16250 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ، قال : فصالحهم . قال : وهذا قد نسخه الجهاد .
قال أبو جعفر : فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله ، من أن هذه الآية منسوخة ، فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل .
وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه ، فأما ما كان بخلاف ذلك ، فغير كائن ناسخا .
وقول الله في "براءة" : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، غير ناف حكمه حكم قوله . ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ؛ لأن قوله : ( وإن جنحوا للسلم ) ، إنما عني به بنو قريظة ، وكانوا يهودا أهل كتاب ، وقد أذن الله - جل ثناؤه - للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحرب على أخذ الجزية منهم .
وأما قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) فإنما عني به مشركو العرب من عبدة الأوثان ، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم ، فليس في إحدى [ ص: 43 ] الآيتين نفي حكم الأخرى ، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه .
16251 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وإن جنحوا للسلم ) ، قال : قريظة .
وأما قوله : ( وتوكل على الله ) ، يقول : فوض إلى الله ، يا محمد ، أمرك ، واستكفه ، واثقا به أنه يكفيك كالذي : -
16252 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( وتوكل على الله ) ، إن الله كافيك .
وقوله : ( إنه هو السميع العليم ) ، يعني بذلك : إن الله الذي تتوكل عليه ، "سميع" ، لما تقول أنت ومن تسالمه وتتاركه الحرب من أعداء الله وأعدائك عند عقد السلم بينك وبينه ، وما يشترط كل فريق منكم على صاحبه من الشروط ، "العليم" ، بما يضمره كل فريق منكم للفريق الآخر من الوفاء بما عاقده عليه ، ومن المضمر ذلك منكم في قلبه ، والمنطوي على خلافه لصاحبه . [ ص: 44 ]