القول في ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ( 67 ) ) تأويل قوله (
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ما كان لنبي أن يحتبس كافرا قدر عليه وصار في يده من عبدة الأوثان للفداء أو للمن .
و"الأسر" في كلام العرب : الحبس ، يقال منه : "مأسور" ، يراد به : محبوس ، ومسموع منهم : "أباله الله أسرا" .
وإنما قال الله - جل ثناؤه - [ ذلك ] لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، يعرفه أن قتل المشركين الذين أسرهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثم فادى بهم ، كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم . [ ص: 59 ]
وقوله : ( حتى يثخن في الأرض ) ، يقول : حتى يبالغ في قتل المشركين فيها ، ويقهرهم غلبة وقسرا .
يقال منه : "أثخن فلان في هذا الأمر" ، إذا بالغ فيه . وحكي : "أثخنته معرفة" ، بمعنى : قتلته معرفة .
( تريدون ) ، يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تريدون ) ، أيها المؤمنون ، ( عرض الدنيا ) ، بأسركم المشركين وهو ما عرض للمرء منها من مال ومتاع . يقول : تريدون بأخذكم الفداء من المشركين متاع الدنيا وطعمها ( والله يريد الآخرة ) ، يقول : والله يريد لكم زينة الآخرة وما أعد للمؤمنين وأهل ولايته في جناته ، بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض . يقول لهم : فاطلبوا ما يريد الله لكم وله اعملوا ، لا ما تدعوكم إليه أهواء أنفسكم من الرغبة في الدنيا وأسبابها ( والله عزيز ) ، يقول : إن أنتم أردتم الآخرة ، لم يغلبكم عدو لكم ، لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب وأنه ( حكيم ) في تدبيره أمر خلقه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
16286 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) ، وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم ، أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى : ( فإما منا بعد وإما فداء ) ، [ سورة محمد : 4 ] ، فجعل الله النبي والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار ، إن [ ص: 60 ] شاءوا قتلوهم ، وإن شاءوا استعبدوهم ، وإن شاءوا فادوهم .
16287 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا ) ، الآية ، قال : أراد أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداء ، ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف! ولعمري ما كان أثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ! وكان أول قتال قاتله المشركين .
16288 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن فضيل ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن مجاهد قال : "الإثخان" : القتل .
16289 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير في قوله : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) ، قال : إذا أسرتموهم فلا تفادوهم حتى تثخنوا فيهم القتل .
16290 - . . . قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) الآية ، نزلت الرخصة بعد ، إن شئت فمن ، وإن شئت ففاد .
16291 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) ، يعني : الذين أسروا ببدر .
16292 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) ، من عدوه ( حتى يثخن في الأرض ) ، أي : [ ص: 61 ] يثخن عدوه حتى ينفيهم من الأرض ( تريدون عرض الدنيا ) ، أي : المتاع والفداء بأخذ الرجال ( والله يريد الآخرة ) ، بقتلهم ، لظهور الدين الذي يريدون إطفاءه ، الذي به تدرك الآخرة .
16293 - حدثني أبو السائب قال : حدثنا أبو معاوية قال : حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : بدر وجيء بالأسرى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ، قومك وأهلك ، استبقهم واستأنهم ، لعل الله أن يتوب عليهم . وقال عمر : يا رسول الله ، كذبوك وأخرجوك ، قدمهم فاضرب أعناقهم! وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرمه عليهم نارا ، قال : فقال له العباس : قطعت رحمك! قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر . وقال ناس : يأخذ بقول عمر . وقال ناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة ، ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة! وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم ، قال : ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) [ سورة إبراهيم : 36 ] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ) ، الآية [ سورة المائدة : 118 ] . [ ص: 62 ] ومثلك يا عمر مثل نوح ، قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) [ سورة نوح : 26 ] ، ومثلك كمثل موسى قال : ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) [ سورة يونس : 88 ] . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم اليوم عالة ، فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق . قال : إلا عبد الله بن مسعود ، فإني سمعته يذكر الإسلام! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء ، مني في ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل بن بيضاء . قال : فأنزل الله : ( سهيل بن بيضاء ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) ، إلى آخر الثلاث الآيات . [ ص: 63 ] لما كان يوم
16294 - حدثنا ابن بشار قال : [ حدثنا ] قال : حدثنا عمر بن يونس اليمامي قال : حدثنا عكرمة بن عمار أبو زميل قال : حدثني قال : عبد الله بن عباس بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين أبو بكر وعمر وعلي؟ قال : ما ترون في الأسارى؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ، هم بنو العم والعشيرة ، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم للإسلام! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقال : لا والذي لا إله إلا هو ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، يا نبي الله ، ولكن أرى أن تمكننا منهم ، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها ، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت . قال عمر : فلما كان من الغد ، جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عرض لأصحابي من أخذهم الفداء ، ولقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة! لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) ، إلى قوله : ( حلالا طيبا ) ، وأحل الله الغنيمة لهم . [ ص: 64 ] لما أسروا الأسارى ، يعني يوم