قال أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في القائل : ( عزير ابن الله ) .
فقال بعضهم : كان ذلك رجلا واحدا ، هو فنحاص .
ذكر من قال ذلك :
16619 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن قال : سمعت ابن جريج عبد الله بن عبيد بن عمير قوله : ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) ، قال : قالها رجل واحد ، قالوا : إن اسمه فنحاص . وقالوا : هو الذي قال : ( إن الله فقير ونحن أغنياء ) ، [ سورة آل عمران : 181 ] . [ ص: 202 ]
وقال آخرون : بل كان ذلك قول جماعة منهم .
ذكر من قال ذلك :
16620 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا قال : حدثنا يونس بن بكير محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشأس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟ فأنزل في ذلك من قولهم : ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) ، إلى : ( أنى يؤفكون ) .
16621 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) ، وإنما قالوا : هو ابن الله من أجل أن عزيرا كان في أهل الكتاب ، وكانت التوراة عندهم ، فعملوا بها ما شاء الله أن يعملوا ، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق ، وكان التابوت فيهم ، فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء ، رفع الله عنهم التابوت ، وأنساهم التوراة ، ونسخها من صدورهم ، وأرسل الله عليهم مرضا ، فاستطلقت بطونهم حتى جعل الرجل يمشي كبده ، حتى نسوا التوراة ، ونسخت من صدورهم ، وفيهم عزير ، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم ، وكان عزير قبل من علمائهم ، فدعا عزير الله ، وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدره من التوراة ، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله ، نزل نور من الله فدخل جوفه ، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من [ ص: 203 ] التوراة ، فأذن في قومه فقال : يا قوم ، قد آتاني الله التوراة وردها إلي ! فعلق بهم يعلمهم ، فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم ، ثم إن التابوت نزل بعد ذلك وبعد ذهابه منهم ، فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم ، فوجدوه مثله ، فقالوا : والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله .
16622 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : ( السدي وقالت اليهود عزير ابن الله ) ، إنما قالت ذلك ، لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم ، وأخذوا التوراة ، وذهب علماؤهم الذين بقوا ، وقد دفنوا كتب التوراة في الجبال . وكان عزير غلاما يتعبد في رءوس الجبال ، لا ينزل إلا يوم عيد ، فجعل الغلام يبكي ويقول : "رب تركت بني إسرائيل بغير عالم" ! فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه ، فنزل مرة إلى العيد ، فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول : يا مطعماه ، ويا كاسياه ! فقال لها : ويحك ، من كان يطعمك أو يكسوك أو يسقيك أو ينفعك قبل هذا الرجل؟ قالت : الله! قال : فإن الله حي لم يمت! قالت : يا عزير ، فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال : الله! قالت : فلم تبكي عليهم؟ فلما عرف أنه قد خصم ، ولى مدبرا ، فدعته فقالت : يا عزير ، إذا أصبحت غدا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه ، ثم اخرج فصل ركعتين ، [ ص: 204 ] فإنه يأتيك شيخ ، فما أعطاك فخذه ، فلما أصبح انطلق عزير إلى ذلك النهر ، فاغتسل فيه ، ثم خرج فصلى ركعتين ، فجاءه الشيخ فقال : افتح فمك! ففتح فمه ، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة ، مجتمع كهيئة القوارير ، ثلاث مرار ، فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة ، فقال : يا بني إسرائيل ، إني قد جئتكم بالتوراة! فقالوا : يا عزير ، ما كنت كذابا! فعمد فربط على كل إصبع له قلما ، وكتب بأصابعه كلها ، فكتب التوراة كلها ، فلما رجع العلماء ، أخبروا بشأن عزير ، فاستخرج أولئك العلماء كتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال ، وكانت في خواب مدفونة ، فعارضوها بتوراة عزير ، فوجدوها مثلها ، فقالوا : ما أعطاك الله هذا إلا أنك ابنه !
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين : " وقالت اليهود عزير ابن الله " ، لا ينونون " عزيرا" .
وقرأه بعض المكيين والكوفيين : ( عزير ابن الله ) ، بتنوين " عزير " قال : هو اسم مجرى وإن كان أعجميا ، لخفته . وهو مع ذلك غير منسوب إلى الله ، فيكون بمنزلة قول القائل : "زيد ابن عبد الله" ، وأوقع "الابن" موقع الخبر . ولو كان منسوبا إلى الله لكان الوجه فيه ، إذا كان الابن خبرا ، الإجراء ، والتنوين ، فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه .
وأما من ترك تنوين " عزير " ، فإنه لما كانت الباء من "ابن" ساكنة مع التنوين الساكن ، والتقى ساكنان ، فحذف الأول منهما استثقالا لتحريكه ، قال الراجز : [ ص: 205 ]
لتجدني بالأمير برا وبالقناة مدعسا مكرا
إذا غطيف السلمي فرا
فحذف النون للساكن الذي استقبلها .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك ، قراءة من قرأ : ( عزير ابن الله ) ، بتنوين " عزير " ، لأن العرب لا تنون الأسماء إذا كان "الابن" نعتا للاسم ، [ وتنونه إذا كان خبرا ] ، كقولهم : "هذا زيد ابن عبد الله" ، فأرادوا الخبر عن "زيد" بأنه "ابن عبد الله" ، ولم يريدوا أن يجعلوا "الابن" له نعتا و"الابن" في هذا الموضع خبر ل"عزير" ، لأن الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ذلك ، إنما أخبروا عن "عزير" ، أنه كذلك ، وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على الله مفترين .
( وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يعني قول اليهود : ( عزير ابن الله ) . يقول : يشبه قول هؤلاء في المسيح إلى أنه لله ابن ، الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزيرا إلى أنه لله ابن ، ولا ينبغي أن يكون لله ولد سبحانه ، [ ص: 206 ] بل له ما في السماوات والأرض ، كل له قانتون . كذب
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
16623 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يقول : يشبهون .
16624 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم .
16625 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : ( السدي يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، النصارى يضاهئون قول اليهود في "عزير" .
16626 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن : ( ابن جريج يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يقول : النصارى ، يضاهئون قول اليهود .
16627 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يقول : قالوا مثل ما قال أهل الأوثان .
وقد قيل : إن معنى ذلك : يحكون بقولهم قول أهل الأوثان ، الذين قالوا : "اللات ، والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى" . [ ص: 207 ]
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق : ( يضاهون ) ، بغير همز .
وقرأه عاصم : ( يضاهئون ) ، بالهمز ، وهي لغة لثقيف .
وهما لغتان ، يقال : "ضاهيته على كذا أضاهيه مضاهاة" و"ضاهأته عليه مضاهأة" ، إذا مالأته عليه وأعنته .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك ترك الهمز ، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار ، واللغة الفصحى .
وأما قوله : ( قاتلهم الله ) ، فإن معناه ، فيما ذكر عن ابن عباس ، ما : -
16628 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( قاتلهم الله ) ، يقول : لعنهم الله . وكل شيء في القرآن "قتل" ، فهو لعن .
وقال في ذلك ما : - ابن جريج
16629 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن قوله : ( ابن جريج قاتلهم الله ) ، يعني النصارى ، كلمة من كلام العرب .
فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون : معناه : قتلهم الله . والعرب تقول : "قاتعك الله" ، و"قاتعها الله" ، بمعنى : قاتلك الله . قالوا : و"قاتعك الله" أهون من "قاتله الله" .
وقد ذكروا أنهم يقولون : "شاقاه الله ما تاقاه" ، يريدون : أشقاه الله ما أبقاه . [ ص: 208 ]
قالوا : ومعنى قوله : ( قاتلهم الله ) ، كقوله : ( قتل الخراصون ) ، [ سورة الذاريات : 10 ] ، و ( قتل أصحاب الأخدود ) ، [ سورة البروج : 4 ] ، واحد هو بمعنى التعجب .
فإن كان الذي قالوا كما قالوا ، فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس ، لأن "فاعلت" لا تكاد أن تجيء فعلا إلا من اثنين ، كقولهم : "خاصمت فلانا" ، و"قاتلته" ، وما أشبه ذلك . وقد زعموا أن قولهم : "عافاك الله" منه ، وأن معناه : أعفاك الله ، بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يعفيه من السوء .
وقوله : ( أنى يؤفكون ) ، يقول : أي وجه يذهب بهم ، ويحيدون؟ وكيف يصدون عن الحق؟ وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل .