القول في تأويل قوله : ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ( 109 ) )
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : ( أفمن أسس بنيانه ) .
فقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة : " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه " . [ ص: 491 ] على وجه ما لم يسم فاعله في الحرفين كليهما .
وقرأت ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق : " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه " على وصف " من " بأنه الفاعل الذي أسس بنيانه .
قال أبو جعفر : وهما قراءتان متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . غير أن قراءته بتوجيه الفعل إلى " من " إذ كان هو المؤسس أعجب إلي .
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذا : أي هؤلاء الذين بنوا المساجد خير - أيها الناس - عندكم : الذين ابتدءوا بناء مسجدهم على اتقاء الله ، بطاعتهم في بنائه ، وأداء فرائضه ورضا من الله لبنائهم ما بنوه من ذلك ، وفعلهم ما فعلوه - خير أم الذين ابتدءوا بناء مسجدهم على شفا جرف هار ؟
يعني بقوله : ( على شفا جرف ) على حرف جرف .
" والجرف " من الركايا ، ما لم يبن له جول [ ص: 492 ] ( هار ) يعني متهور . وإنما هو " هائر " ولكنه قلب ، فأخرت ياؤها فقيل : " هار " كما قيل : " هو شاكي السلاح " " وشائك " وأصله من " هار يهور فهو هائر " وقيل : " هو من هار يهار " إذا انهدم . ومن جعله من هذه اللغة قال : " هرت يا جرف " ومن جعله " من هار يهور " قال : " هرت يا جرف " .
قال أبو جعفر : وإنما هذا مثل . يقول - تعالى ذكره - : أي هذين الفريقين خير ؟ وأي هذين البناءين أثبت ؟ أمن ابتدأ أساس بنائه على طاعة الله ، وعلم منه بأن بناءه لله طاعة ، والله به راض ، أم من ابتدأه بنفاق وضلال ، وعلى غير بصيرة منه بصواب فعله من خطئه ، فهو لا يدري متى يتبين له خطأ فعله وعظيم ذنبه ، فيهدمه ، كما يأتي البناء على جرف ركية لا حابس لماء السيول عنها ولغيره من المياه ، ثرية التراب متناثرة ، لا تلبثه السيول أن تهدمه وتنثره ؟
يقول الله - جل ثناؤه - : ( فانهار به في نار جهنم ) يعني : فانتثر الجرف الهاري ببنائه في نار جهنم كما : -
17244 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : ( فانهار به ) يعني قواعده ( في نار جهنم ) .
17245 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فانهار به ) يقول : فخر به .
17246 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ) إلى قوله : ( فانهار به في نار جهنم ) [ ص: 493 ] قال : والله ما تناهى أن وقع في النار . ذكر لنا أنه تحفرت بقعة منها ، فرئي منها الدخان .
17247 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال : ابن جريج بنو عمرو بن عوف . استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في بنيانه ، فأذن لهم ، ففرغوا منه يوم الجمعة ، فصلوا فيه الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد . قال : وانهار يوم الاثنين . قال : وكان قد استنظرهم ثلاثا ، السبت والأحد والاثنين ( فانهار به في نار جهنم ) مسجد المنافقين ، انهار فلم يتناه دون أن وقع في النار . قال : ذكر لنا أن رجالا حفروا فيه ، فأبصروا الدخان يخرج منه ابن جريج .
17248 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن عبد الله الداناج ، عن ، عن طلق بن حبيب جابر قوله : ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا ) قال : رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
17249 - حدثنا محمد بن مرزوق البصري قال : حدثنا أبو سلمة قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن عبد الله الداناج قال : حدثني طلق العنزي ، [ ص: 494 ] عن قال : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار . جابر بن عبد الله
17250 - حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال : حدثنا خلف بن ياسين الكوفي قال : حججت مع أبي في ذلك الزمان يعني : زمان بني أمية فمررنا بالمدينة ، فرأيت مسجد القبلتين يعني مسجد الرسول وفيه قبلة بيت المقدس . فلما كان زمان أبي جعفر قالوا : يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة فهذا البناء الذي ترون جرى على يد عبد الصمد بن علي . ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله في القرآن ، وفيه حجر يخرج منه الدخان ، وهو اليوم مزبلة .
قوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) يقول : والله لا يوفق للرشاد في أفعاله من كان بانيا بناءه في غير حقه وموضعه ، ومن كان منافقا مخالفا بفعله أمر الله وأمر رسوله .