قال أبو جعفر : يقول ، تعالى ذكره : وقال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم - وهم " الملأ " - " زينة " ، من متاع الدنيا وأثاثها ( وأموالا ) من أعيان الذهب والفضة ( في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ) يقول موسى لربه : ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من ذلك ليضلوا عن سبيلك .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأه بعضهم : ( ليضلوا عن سبيلك ) ، بمعنى : ليضلوا الناس ، عن سبيلك ، ويصدوهم عن دينك .
وقرأ ذلك آخرون : ( ليضلوا عن سبيلك ) ، بمعنى : ليضلوا هم عن سبيلك ، فيجوروا عن طريق الهدى .
فإن قال قائل : أفكان الله جل ثناؤه ، أعطى فرعون وقومه ، ما أعطاهم من زينة الدنيا وأموالها ، ليضلوا الناس عن دينه أو ليضلوا هم عنه ؟ فإن كان لذلك أعطاهم ذلك ، فقد كان منهم ما أعطاهم لذلك ، فلا عتب عليهم في ذلك ؟ [ ص: 178 ] قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت .
وقد اختلف أهل العلم بالعربية في معنى هذه " اللام " التي في قوله : ( ليضلوا ) .
فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : ربنا فضلوا عن سبيلك ، كما قال : ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) ، [ سورة القصص : 8 ] ، أي فكان لهم وهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوا وحزنا ، وإنما التقطوه فكان لهم . قال : فهذه " اللام " تجيء في هذا المعنى .
وقال بعض نحويي الكوفة : هذه " اللام " " لام كي " ومعنى الكلام : ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم ، كي يضلوا ثم دعا عليهم .
وقال آخر : هذه اللامات في قوله : ( ليضلوا ) و ( ليكون لهم عدوا ) ، وما أشبهها بتأويل الخفض : آتيتهم ما أتيتهم لضلالهم والتقطوه لكونه لأنه قد آلت الحالة إلى ذلك . والعرب تجعل " لام كي " في معنى " لام الخفض " و " لام الخفض " في معنى " لام كي " ، لتقارب المعنى ، قال الله تعالى : ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ) [ سورة التوبة : 95 ] أي لإعراضكم ، ولم يحلفوا لإعراضهم ، وقال الشاعر :
سموت ولم تكن أهلا لتسمو ولكن المضيع قد يصاب
قال : وإنما يقال : " وما كنت أهلا للفعل " ولا يقال " لتفعل " إلا قليلا . قال : وهذا منه . [ ص: 179 ]
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أنها " لام كي " ومعنى الكلام : ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه ، ويضلوا عن سبيلك عبادك ، عقوبة منك . وهذا كما قال جل ثناؤه : ( لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ) ، [ سورة الجن : 16 - 17 ] .
وقوله : ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ) هذا دعاء من موسى ، دعا الله على فرعون وملئه أن يغير أموالهم عن هيئتها ، ويبدلها إلى غير الحال التي هي بها ، وذلك نحو قوله : ( من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ) ، [ سورة النساء : 47 ] . يعني به : من قبل أن نغيرها عن هيئتها التي هي بها .
يقال منه : " طمست عينه أطمسها وأطمسها طمسا وطموسا " . وقد تستعمل العرب " الطمس " في العفو والدثور ، وفي الاندقاق والدروس ، كما قال كعب بن زهير :
من كل نضاحة الذفرى إذا عرقت عرضتها طامس الأعلام مجهول
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك في هذا الموضع . فقال جماعة منهم فيه مثل قولنا .
ذكر من قال ذلك :
17820 - حدثني زكريا بن يحيى بن زائدة قال : حدثنا حجاج قال : حدثني عن ابن جريج عبد الله بن كثير قال : بلغنا عن القرظي في قوله : ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال : اجعل سكرهم حجارة .
17821 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن [ ص: 180 ] عن ابن جريج عبد الله بن كثير عن قال : اجعل سكرهم حجارة . محمد بن كعب القرظي
17822 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن يمان عن أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية : ( اطمس على أموالهم ) قال : اجعلها حجارة .
17823 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال : حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس في قوله : ( اطمس على أموالهم ) ، قال : صارت حجارة .
17824 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال : بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة .
17825 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة : ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال : بلغنا أن حرثا لهم صارت حجارة .
17826 - حدثني المثنى قال : حدثنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا سفيان : ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال : يقولون : صارت حجارة .
17827 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق . قال : حدثنا يحيى الحماني قال : أخبرنا ابن المبارك عن إسماعيل عن أبي صالح في قوله : ( ربنا اطمس على أموالهم ) قال : صارت حجارة .
17828 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال : بلغنا أن حروثا لهم صارت حجارة .
17829 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( ربنا اطمس على أموالهم ) [ ص: 181 ] ، قال : جعلها الله حجارة منقوشة على هيئة ما كانت .
17830 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ربنا اطمس على أموالهم ) قال : قد فعل ذلك ، وقد أصابهم ذلك ، طمس على أموالهم ، فصارت حجارة ، ذهبهم ودراهمهم وعدسهم ، وكل شيء .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أهلكها .
ذكر من قال ذلك :
17831 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال : حدثنا حجاج عن عن ابن جريج مجاهد : ( ربنا اطمس على أموالهم ) قال : أهلكها .
17832 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
17833 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، مثله .
17834 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، يقول : دمر عليهم وأهلك أموالهم .
وأما قوله : ( واشدد على قلوبهم ) ، فإنه يعني : واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح بالإيمان ، كما :
17835 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس : وقال موسى قبل أن يأتي فرعون : " ربنا اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " فاستجاب الله له ، وحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق ، فلم ينفعه الإيمان .
17836 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي [ ص: 182 ] قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( واشدد على قلوبهم ) يقول : واطبع على قلوبهم ( حتى يروا العذاب الأليم ) ، وهو الغرق .
17837 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : ( واشدد على قلوبهم ) ، بالضلالة .
17838 - . . . . قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : ( واشدد على قلوبهم ) ، قال : بالضلالة .
17839 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن عن ابن جريج مجاهد مثله .
17840 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( واشدد على قلوبهم ) ، يقول : أهلكهم كفارا .
وأما قوله : ( فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) ، فإن معناه : فلا يصدقوا بتوحيد الله ويقروا بوحدانيته حتى يروا العذاب الموجع ، كما :
17841 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : ( فلا يؤمنوا ) بالله فيما يرون من الآيات ( حتى يروا العذاب الأليم ) .
17842 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
17843 - . . . . قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك عن عن ابن جريج مجاهد مثله .
17844 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج [ ص: 183 ] عن عن ابن جريج مجاهد مثله .
17845 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : سمعت المنقري يقول : ( فلا يؤمنوا ) يقول : دعا عليهم .
واختلف أهل العربية في موضع : ( يؤمنوا ) .
فقال بعض نحويي البصرة : هو نصب ، لأن جواب الأمر بالفاء ، أو يكون دعاء عليهم إذ عصوا . وقد حكي عن قائل هذا القول أنه كان يقول : هو نصب ، عطفا على قوله : ( ليضلوا عن سبيلك ) .
وقال آخر منهم ، وهو قول نحويي الكوفة : موضعه جزم ، على الدعاء من موسى عليهم ، بمعنى : فلا آمنوا ، كما قال الشاعر :
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم
بمعنى : " فلا انبسط من بين عينيك ما انزوى " ، " ولا لقيتني " ، على الدعاء . [ ص: 184 ]
وكان بعض نحويي الكوفة يقول : هو دعاء ، كأنه قال : اللهم فلا يؤمنوا . قال : وإن شئت جعلتها جوابا لمسألته إياه ، لأن المسألة خرجت على لفظ الأمر ، فتجعل : ( فلا يؤمنوا ) ، في موضع نصب على الجواب ، وليس يسهل . قال : ويكون كقول الشاعر :
يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا
قال : وليس الجواب يسهل في الدعاء ، لأنه ليس بشرط .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، أنه في موضع جزم على الدعاء ، بمعنى : فلا آمنوا وإنما اخترت ذلك لأن ما قبله دعاء ، وذلك قوله : ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ) ، فإلحاق قوله : ( فلا يؤمنوا ) إذ كان في سياق ذلك بمعناه أشبه وأولى .
وأما قوله : ( حتى يروا العذاب الأليم ) ، فإن ابن عباس كان يقول : معناه : حتى يروا الغرق وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك من بعض وجوهها فيما مضى .
17846 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن قال ابن جريج ابن عباس : ( فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) ، قال : الغرق .