قال أبو جعفر : يقول ، تعالى ذكره : فهلا كانت قرية آمنت ؟ وهي كذلك فيما ذكر في قراءة أبي .
ومعنى الكلام : فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب ، ونزول سخط الله بها ، بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه ، فنفعها إيمانها ذلك في ذلك الوقت ، كما فرعون إيمانه حين أدركه الغرق بعد تماديه في غيه ، واستحقاقه سخط الله [ ص: 206 ] بمعصيته إلا قوم لم ينفع يونس فإنهم نفعهم إيمانهم بعد نزول العقوبة وحلول السخط بهم .
فاستثنى الله يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم بعد نزول العذاب بساحتهم ، وأخرجهم منهم ، وأخبر خلقه أنه نفعهم أيمانهم خاصة من بين سائر الأمم غيرهم . قوم
فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت من أن قوله : ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ) بمعنى : فما كانت قرية آمنت ، بمعنى الجحود ، فكيف نصب " قوما " وقد علمت أن ما قبل الاستثناء إذا كان جحدا كان ما بعده مرفوعا ، وأن الصحيح من كلام العرب : " ما قام أحد إلا أخوك " و " ما خرج أحد إلا أبوك " ؟
قيل : إن ذلك فيما يكون كذلك إذا كان ما بعد الاستثناء من جنس ما قبله ، وذلك أن " الأخ " من جنس " أحد " وكذلك " الأب " ، ولكن لو اختلف الجنسان حتى يكون ما بعد الاستثناء من غير جنس ما قبله ، كان الفصيح من كلامهم النصب ، وذلك لو قلت : " ما بقي في الدار أحد إلا الوتد " و " ما عندنا أحد إلا كلبا أو حمارا " لأن " الكلب " و " الوتد " ، و " الحمار " ، من غير جنس " أحد " ، ومنه قول النابغة الذبياني :
عيت جوابا وما بالربع من أحد
ثم قال :
إلا أواري لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
فنصب " الأواري " إذ كان مستثنى من غير جنسه . فكذلك نصب ( قوم يونس ) ، لأنهم أمة غير الأمم الذين استثنوا منهم ، ومن غير جنسهم [ ص: 207 ] وشكلهم ، وإن كانوا من بني آدم . وهذا الاستثناء الذي يسميه بعض أهل العربية الاستثناء المنقطع ، ولو كان ( قوم يونس ) بعض " الأمة " الذين استثنوا منهم ، كان الكلام رفعا ، ولكنهم كما وصفت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
17897 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن عن ابن جريج عن عطاء الخراساني ابن عباس قوله : ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ) ، يقول : لم تكن قرية آمنت فنفعها الإيمان إذا نزل بها بأس الله ، إلا قرية يونس .
قال : قال ابن جريج مجاهد : فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها كما نفع قوم يونس إيمانهم إلا قوم يونس .
17898 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) يقول : لم يكن هذا في الأمم قبلهم لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب ، فتركت ، إلا قوم يونس ، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم ، قذف الله في قلوبهم التوبة ، ولبسوا المسوح ، [ وفرقوا ] بين كل بهيمة وولدها ، ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة . فلما عرف الله الصدق من قلوبهم ، والتوبة والندامة على ما مضى منهم ، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم . قال : وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى أرض الموصل . [ ص: 208 ]
17899 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة : ( إلا قوم يونس ) ، قال : بلغنا أنهم خرجوا فنزلوا على تل ، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ، يدعون الله أربعين ليلة ، حتى تاب عليهم .
17900 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عن عبد الحميد الحماني إسماعيل بن عبد الملك عن سعيد بن جبير قال : غشى قوم يونس العذاب ، كما يغشي الثوب القبر .
17901 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن صالح المري عن قتادة عن ابن عباس : إن العذاب كان هبط على قوم يونس حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل ، فلما دعوا كشف الله عنهم .
17902 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وإسحاق قال : حدثنا عبد الله عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا ) ، قال : كما نفع قوم يونس . زاد أبو حذيفة في حديثه ، قال : لم تكن قرية آمنت حين رأت العذاب فنفعها إيمانها ، إلا قوم يونس متعناهم .
17903 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : حدثنا رجل قد قرأ القرآن في صدره ، في إمارة رضي الله عنه ، فحدث عن قوم عمر بن الخطاب يونس حين أنذر قومه فكذبوه ، فأخبرهم أن العذاب يصيبهم ، وفارقهم . فلما رأوا ذلك غشيهم العذاب ، [ لكنهم ] خرجوا من مساكنهم ، وصعدوا في مكان رفيع ، وأنهم [ ص: 209 ] جأروا إلى ربهم ودعوه مخلصين له الدين : أن يكشف عنهم العذاب ، وأن يرجع إليهم رسولهم . قال : ففي ذلك أنزل : ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) ، فلم تكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك عنها ، إلا قوم يونس خاصة . فلما رأى ذلك يونس ، [ لكنه ] ذهب عاتبا على ربه ، وانطلق مغاضبا وظن أن لن يقدر عليه ، حتى ركب في سفينة ، فأصاب أهلها عاصف الريح فذكر قصة يونس وخبره .
17904 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح قال : " لما رأوا العذاب ينزل ، فرقوا بين كل أنثى وولدها من الناس والأنعام ، ثم قاموا جميعا فدعوا الله ، وأخلصوا إيمانهم ، فرأوا العذاب يكشف عنهم . قال يونس حين كشف عنهم العذاب : أرجع إليهم وقد كذبتهم! وكان يونس قد وعدهم العذاب بصبح ثالثة ، فعند ذلك خرج مغضبا وساء ظنه .
17905 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سفيان عن إسماعيل بن عبد الملك عن سعيد بن جبير قال : لما أرسل يونس إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه . قال : فدعاهم فأبوا ، فقيل له : أخبرهم أن العذاب مصبحهم ، فقالوا : إنا لم نجرب عليه كذبا ، فانظروا ، فإن بات فيكم فليس بشيء ، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم . فلما كان في جوف الليل أخذ علاثة فتزود منها شيئا ، ثم خرج ، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب ، [ ص: 210 ] كما يتغشى الإنسان الثوب في القبر ، ففرقوا بين الإنسان وولده ، وبين البهيمة وولدها ، ثم عجوا إلى الله فقالوا : آمنا بما جاء به يونس وصدقنا! فكشف الله عنهم العذاب ، فخرج يونس ينظر العذاب فلم ير شيئا ، قال : جربوا علي كذبا! فذهب مغاضبا لربه حتى أتى البحر .
17906 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال ، حدثنا ابن مسعود في بيت المال ، قال : إن يونس عليه السلام كان قد وعد قومه العذاب ، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ، ففرقوا بين كل والدة وولدها ، ثم خرجوا فجأروا إلى الله واستغفروه . فكف الله عنهم العذاب ، وغدا يونس ينظر العذاب فلم ير شيئا ، وكان من كذب ولم تكن له بينة قتل ، فانطلق مغاضبا .
17907 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا قال : حدثنا يحيى بن واضح صالح المري عن عن أبي عمران الجوني أبي الجلد جيلان قال : لما غشى قوم يونس العذاب ، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له : إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى ؟ فقال : قولوا : " يا حي حين لا حي ، ويا حي محيي الموتى ، ويا حي لا إله إلا أنت " فكشف عنهم العذاب ، ومتعوا إلى حين .
17908 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال : بلغني في حرف ابن مسعود : " فلولا " ، يقول ( فهلا ) .
وقوله : ( لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ) ، يقول : لما صدقوا رسولهم ، وأقروا بما جاءهم به بعد ما أظلهم العذاب وغشيهم أمر الله [ ص: 211 ] ونزل بهم البلاء ، كشفنا عنهم عذاب الهوان والذل في حياتهم الدنيا ( ومتعناهم إلى حين ) ، يقول : وأخرنا في آجالهم ولم نعاجلهم بالعقوبة ، وتركناهم في الدنيا يستمتعون فيها بآجالهم إلى حين مماتهم ، ووقت فناء أعمارهم التي قضيت فناءها .