قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته جماعة من قرأة أهل المدينة والكوفة : ( وإن ) مشددة ( كلا لما ) مشددة .
واختلف أهل العربية في معنى ذلك :
فقال بعض نحويي الكوفيين : معناه إذا قرئ كذلك : وإن كلا لمما ليوفينهم ربك أعمالهم ، ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة ، فبقيت ثنتان ، فأدغمت واحدة في الأخرى ، كما قال الشاعر :
وإني لمما أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيى بالسبيل مصادره
ثم تخفف ، كما قرأ بعض القرأة : ( والبغي يعظكم ) ، [ سورة النحل : 90 ] ، تخف الياء مع الياء . وذكر أن الكسائي أنشده : [ ص: 495 ]
وأشمت العداة بنا فأضحوا لدي يتباشرون بما لقينا
وقال : يريد "لدي يتباشرون بما لقينا" ، فحذف ياء ، لحركتهن واجتماعهن ، قال : ومثله :
كأن من آخرها إلقادم مخرم نجد فارع المخارم
وقال : أراد : إلى القادم ، فحذف اللام عند اللام .
وقال آخرون : معنى ذلك إذا قرئ كذلك : وإن كلا شديدا وحقا ، ليوفينهم ربك أعمالهم . قال : وإنما يراد إذا قرئ ذلك كذلك : ( وإن كلا لما ) بالتشديد والتنوين ، ولكن قارئ ذلك كذلك حذف منه التنوين ، فأخرجه على لفظ فعل "لما" ، كما فعل ذلك في قوله : ( ثم أرسلنا رسلنا تترى ) ، [ سورة المؤمنون : 44 ] ، فقرأ "تترى" ، بعضهم بالتنوين ، كما قرأ من قرأ : "لما" بالتنوين ، وقرأها آخرون بغير تنوين ، كما قرأ ( لما ) بغير تنوين من قرأه . وقالوا : أصله من "اللم" من قول الله تعالى : ( وتأكلون التراث أكلا لما ) ، يعني : أكلا شديدا .
وقال آخرون : معنى ذلك إذا قرئ كذلك : وإن كلا إلا ليوفينهم ، كما يقول القائل : " بالله لما قمت عنا ، وبالله إلا قمت عنا" . [ ص: 496 ]
قال أبو جعفر : ووجدت عامة أهل العلم بالعربية ينكرون هذا القول ، ويأبون أن يكون جائزا توجيه "لما" إلى معنى "إلا" ، إلا في اليمين خاصة . وقالوا : لو جاز أن يكون ذلك بمعنى إلا جاز أن يقال : "قام القوم لما أخاك" بمعنى : إلا أخاك ، ودخولها في كل موضع صلح دخول "إلا" فيه .
قال أبو جعفر : وأنا أرى أن ذلك فاسد من وجه هو أبين مما قاله الذين حكينا قولهم من أهل العربية ، في فساده ، وهو أن "إن" إثبات للشيء وتحقيق له ، و"إلا" ، تحقيق أيضا ، وإنما تدخل نقضا لجحد قد تقدمها . فإذا كان ذلك معناها ، فواجب أن تكون عند متأولها التأويل الذي ذكرنا عنه ، أن تكون "إن" بمعنى الجحد عنده ، حتى تكون "إلا نقضا" لها . وذلك إن قاله قائل ، قول لا يخفى جهل قائله ، اللهم إلا أن يخفف قارئ "إن" فيجعلها بمعنى "إن" التي تكون بمعنى الجحد . وإن فعل ذلك ، فسدت قراءته ذلك كذلك أيضا من وجه آخر ، وهو أنه يصير حينئذ ناصبا "لكل" بقوله : ليوفينهم ، وليس في العربية أن ينصب ما بعد "إلا" من الفعل ، الاسم الذي قبلها . لا تقول العرب : "ما زيدا إلا ضربت" ، فيفسد ذلك إذا قرئ كذلك من هذا الوجه ، إلا أن يرفع رافع "الكل" ، فيخالف بقراءته ذلك كذلك قراءة القرأة وخط مصاحف المسلمين ، ولا يخرج بذلك من العيب لخروجه من معروف كلام العرب .
وقد قرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين : ( وإن كلا ) بتخفيف "إن" ونصب ( كلا لما ) مشددة . [ ص: 497 ]
وزعم بعض أهل العربية أن قارئ ذلك كذلك ، أراد "إن" الثقيلة فخففها ، وذكر عن أبي زيد البصري أنه سمع : "كأن ثدييه حقان" ، فنصب ب "كأن " ، والنون مخففة من "كأن" ، ومنه قول الشاعر :
ووجه مشرق النحر كأن ثدييه حقان
وقرأ ذلك بعض المدنيين بتخفيف : ( إن ) ونصب ( كلا ) ، وتخفيف ( لما ) .
وقد يحتمل أن يكون قارئ ذلك كذلك ، قصد المعنى الذي حكيناه عن قارئ الكوفة من تخفيفه نون "إن" وهو يريد تشديدها ، ويريد ب "ما" التي في "لما" التي تدخل في الكلام صلة ، وأن يكون قصد إلى تحميل الكلام معنى : وإن كلا ليوفينهم .
ويجوز أن يكون معناه كان في قراءته ذلك كذلك : وإن كلا ليوفينهم ، أي : ليوفين كلا فيكون نيته في نصب "كل" كانت بقوله : "ليوفينهم" ، فإن كان ذلك أراد ، ففيه من القبح ما ذكرت من خلافه كلام العرب . وذلك أنها لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسما قبلها .
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والبصرة : ( وإن ) مشددة ( كلا لما ) مخففة ( ليوفينهم ) . ولهذه القراءة وجهان من المعنى :
أحدهما : أن يكون قارئها أراد : وإن كلا لمن ليوفينهم ربك أعمالهم ، فيوجه "ما" التي في "لما" إلى معنى "من" كما قال جل ثناؤه : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) ، [ سورة النساء : 3 ] ، وإن كان أكثر استعمال العرب [ ص: 498 ] لها في غير بني آدم وينوي باللام التي في "لما" اللام التي تتلقى بها "إن" جوابا لها ، وباللام التي في قوله : ( ليوفينهم ) ، لام اليمين ، دخلت فيما بين ما وصلتها ، كما قال جل ثناؤه : ( وإن منكم لمن ليبطئن ) [ سورة النساء : 72 ] ، وكما يقال : "هذا ما لغيره أفضل منه" .
والوجه الآخر : أن يجعل "ما" التي في "لما" بمعنى "ما" التي تدخل صلة في الكلام ، واللام التي فيها هي اللام التي يجاب بها ، واللام التي في : ( ليوفينهم ) ، هي أيضا اللام التي يجاب بها "إن" كررت وأعيدت ، إذا كان ذلك موضعها ، وكانت الأولى مما تدخلها العرب في غير موضعها ، ثم تعيدها بعد في موضعها ، كما قال الشاعر :
فلو أن قومي لم يكونوا أعزة لبعد لقد لاقيت لا بد مصرعا
وقرأ ذلك الزهري فيما ذكر عنه : ( وإن كلا ) بتشديد "إن" ، و ( لما ) بتنوينها ، بمعنى : شديدا وحقا وجميعا .
قال أبو جعفر : وأصح هذه القراءات مخرجا على كلام العرب المستفيض فيهم ، قراءة من قرأ : "وإن" بتشديد نونها ، "كلا لما" بتخفيف "ما" ( ليوفينهم ربك ) ، بمعنى : وإن كل هؤلاء الذين قصصنا عليك ، يا محمد ، قصصهم في هذه السورة ، لمن ليوفينهم ربك أعمالهم ، بالصالح منها بالجزيل من الثواب ، وبالطالح منها بالشديد من العقاب فتكون "ما" بمعنى "من" واللام التي فيها جوابا ل "إن" ، واللام في قوله : ( ليوفينهم ) ، لام قسم . [ ص: 499 ]
وقوله : ( إنه بما يعملون خبير ) ، يقول تعالى ذكره : إن ربك بما يعمل هؤلاء المشركون بالله من قومك ، يا محمد ، "خبير" ، لا يخفى عليه شيء من عملهم ، بل يخبر ذلك كله ويعلمه ويحيط به ، حتى يجازيهم على جميع ذلك جزاءهم .