قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : معناه : لله تعالى ذكره معقبات قالوا : "الهاء" في قوله : "له" من ذكر اسم الله .
و "المعقبات" التي تعتقب على العبد ، وذلك أن ملائكة الليل إذا صعدت بالنهار أعقبتها ملائكة النهار ، فإذا انقضى النهار صعدت ملائكة النهار ثم أعقبتها ملائكة الليل . وقالوا : قيل "معقبات" و "الملائكة" جمع "ملك" مذكر غير مؤنث ، وواحد "الملائكة" "معقب" وجماعتها "معقبة" ثم جمع جمعه أعني جمع "معقب" بعد ما جمع "معقبة" وقيل "معقبات" كما قيل : "سادات سعد" "ورجالات بني فلان" جمع "رجال" .
وقوله : ( من بين يديه ومن خلفه ) ، يعني بقوله : ( من بين يديه ) ، من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار ( ومن خلفه ) ، من وراء ظهره .
ذكر من قال ذلك :
20210 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن المثنى محمد بن جعفر قال : حدثنا [ ص: 370 ] شعبة ، عن منصور ، يعني ابن زاذان ، عن الحسن في هذه الآية : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال : الملائكة .
20211 - حدثني المثنى قال : حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري قال : حدثنا علي بن جرير ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن كنانة العدوي قال : دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ قال : ملك على يمينك على حسناتك ، وهو أمين على الذي على الشمال ، فإذا عملت حسنة كتبت عشرا ، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : اكتب؟ قال : لا لعله يستغفر الله ويتوب! فإذا قال ثلاثا قال : نعم ، اكتب أراحنا الله منه ، فبئس القرين ، ما أقل مراقبته لله ، وأقل استحياءه منا! يقول الله : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ، [ سورة ق : 18 ] ، وملكان من بين يديك ومن خلفك ، يقول الله : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، وملك قابض على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك ، وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد ، وملك قائم على فيك لا يدع الحية تدخل في فيك ، وملكان على عينيك . فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ، ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار ، [ لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار ] فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي ، وإبليس بالنهار وولده بالليل . [ ص: 371 ]
20212 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) الملائكة ( يحفظونه من أمر الله ) .
20213 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20214 - . . . قال : حدثنا قال : أخبرنا عمرو بن عون هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، في قوله : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه ) ، قال : مع كل إنسان حفظة يحفظونه من أمر الله .
20215 - . . . قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، فالمعقبات هن من أمر الله ، وهي الملائكة .
20216 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( يحفظونه من أمر الله ) قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدره خلوا عنه .
20217 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) فإذا جاء القدر خلوا عنه .
20218 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم [ ص: 372 ] في هذه الآية قال : الحفظة .
20219 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، قال : ملائكة .
20220 - حدثنا أحمد بن حازم قال : حدثنا يعلى قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : ( له معقبات ) قال : ملائكة الليل ، يعقبون ملائكة النهار .
20221 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) هذه ملائكة الليل يتعاقبون فيكم بالليل والنهار . وذكر لنا أنهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح وفي قراءة أبي بن كعب : ( له معقبات من بين يديه ورقيب من خلفه يحفظونه من أمر الله ) .
20222 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : ( له معقبات من بين يديه ) ، قال : ملائكة يتعاقبونه .
20223 - حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن قال : قال ابن جريج ابن عباس : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال : الملائكة قال : "معقبات" قال : الملائكة تعاقب الليل والنهار . ابن جريج
وبلغنا وقوله : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يجتمعون فيكم عند صلاة العصر وصلاة الصبح يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ) ، قال : مثل قوله : ( ابن جريج عن اليمين وعن الشمال قعيد ) ، [ سورة ق : 17 ] . قال : الحسنات من بين يديه ، والسيئات من خلفه ، الذي عن يمينه يكتب الحسنات والذي عن شماله يكتب السيئات .
20224 - حدثنا سوار بن عبد الله قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال : [ ص: 373 ] سمعت ليثا يحدث ، عن مجاهد أنه قال : ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام ، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال : وراءك! إلا شيئا يأذن الله فيه فيصيبه .
20225 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي : قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) ، قال : يعني الملائكة .
وقال آخرون : بل عنى ب "المعقبات" في هذا الموضع ، الحرس ، الذي يتعاقب على الأمير .
ذكر من قال ذلك :
20226 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال : حدثنا ابن يمان قال : حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال : ذلك ملك من ملوك الدنيا له حرس من دونه حرس .
20227 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) ، يعني ولي الشيطان ، يكون عليه الحرس .
20228 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن شرقي : أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال : هؤلاء الأمراء .
20229 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا عمرو بن [ ص: 374 ] نافع قال : سمعت عكرمة يقول : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال : المواكب من بين يديه ومن خلفه .
20230 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، قال : هو السلطان المحترس من الله ، وهم أهل الشرك .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، قول من قال : "الهاء" في قوله : ( له معقبات ) من ذكر "من" التي في قوله : ( ومن هو مستخف بالليل ) وأن المعقبات من بين يديه ومن خلفه ، هي حرسه وجلاوزته ، كما قال ذلك من ذكرنا قوله .
وإنما قلنا : "ذلك أولى التأويلين بالصواب " لأن قوله : ( له معقبات ) أقرب إلى قوله : ( ومن هو مستخف بالليل ) منه إلى عالم الغيب ، فهي لقربها منه أولى بأن تكون من ذكره ، وأن يكون المعني بذلك هذا ، مع دلالة قول الله : ( وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ) على أنهم المعنيون بذلك .
وذلك أنه جل ثناؤه ذكر قوما أهل معصية له وأهل ريبة ، يستخفون بالليل ويظهرون بالنهار ، ويمتنعون عند أنفسهم بحرس يحرسهم ، ومنعة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية الله . ثم أخبر أن الله تعالى ذكره إذا أراد بهم سوءا لم ينفعهم حرسهم ، ولا يدفع عنهم حفظهم . [ ص: 375 ]
وقوله : ( يحفظونه من أمر الله ) اختلف أهل التأويل في تأويل هذا الحرف على نحو اختلافهم في تأويل قوله : ( له معقبات ) .
فمن قال : "المعقبات" هي الملائكة قال : الذين يحفظونه من أمر الله هم أيضا الملائكة .
ومن قال : "المعقبات" هي الحرس والجلاوزة من بني آدم قال : الذين يحفظونه من أمر الله هم أولئك الحرس .
واختلفوا أيضا في معنى قوله : ( من أمر الله ) .
فقال بعضهم : حفظهم إياه من أمره .
وقال بعضهم : ( يحفظونه من أمر الله ) بأمر الله .
ذكر من قال : الذين يحفظونه هم الملائكة ، ووجه قوله : ( بأمر الله ) إلى معنى أن حفظها إياه : من أمر الله :
20231 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي عن ابن عباس قوله : ( يحفظونه من أمر الله ) ، يقول : بإذن الله ، فالمعقبات : هي من أمر الله ، وهي الملائكة .
20232 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : ( يحفظونه من أمر الله ) ، قال : الملائكة : الحفظة ، وحفظهم إياه : من أمر الله .
20233 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا محمد بن عبيد قال : حدثني عبد الملك ، عن ابن عبيد الله ، عن مجاهد في قوله : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، قال : الحفظة هم من أمر الله .
20234 - . . . قال : حدثنا علي يعني ابن عبد الله بن جعفر قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن ابن عباس : ( له معقبات من بين يديه ) ، رقباء [ ص: 376 ] ( ومن خلفه ) من أمر الله ( يحفظونه ) .
20235 - . . . قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الجارود ، عن ابن عباس : ( له معقبات من بين يديه ) ، رقيب ( ومن خلفه ) .
20236 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، قال : الملائكة من أمر الله .
20237 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن قال : قال ابن جريج ابن عباس : ( يحفظونه من أمر الله ) ، قال : الملائكة من أمر الله .
20238 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) قال : الحفظة .
ذكر من قال : عنى بذلك : يحفظونه بأمر الله :
20239 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( يحفظونه من أمر الله ) : أي بأمر الله .
20240 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( يحفظونه من أمر الله ) ، وفي بعض القراءات ( بأمر الله ) .
20241 - حدثني المثنى قال : حدثنا قال : أخبرنا عمرو بن عون هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد في قوله : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) [ ص: 377 ] قال : مع كل إنسان حفظة يحفظونه من أمر الله .
ذكر من قال : تحفظه الحرس من بني آدم من أمر الله :
20242 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( يحفظونه من أمر الله ) يعني ولي الشيطان ، يكون عليه الحرس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، يقول الله عز وجل : يحفظونه من أمري ، فإني إذا أردت بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال .
20243 - حدثني أبو هريرة الضبعي قال : حدثنا أبو قتيبة قال : حدثنا شعبة ، عن شرقي ، عن عكرمة : ( يحفظونه من أمر الله ) قال : الجلاوزة .
وقال آخرون : معنى ذلك : يحفظونه من أمر الله ، و "أمر الله" الجن ، ومن يبغي أذاه ومكروهه قبل مجيء قضاء الله ، فإذا جاء قضاؤه خلوا بينه وبينه .
ذكر من قال ذلك :
20244 - حدثني أبو هريرة الضبعي قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا ورقاء ، عن منصور ، عن طلحة ، عن إبراهيم : ( يحفظونه من أمر الله ) قال : من الجن .
20245 - حدثنا سوار بن عبد الله قال : حدثنا المعتمر قال : سمعت ليثا [ ص: 378 ] يحدث ، عن مجاهد أنه قال : ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام ، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال : وراءك . إلا شيئا يأذن الله فيصيبه .
20246 - حدثنا الحسن بن عرفة قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن زياد الألهاني ، عن يزيد بن شريح ، عن كعب الأحبار قال : لو تجلى لابن آدم كل سهل وحزن لرأى على كل شيء من ذلك شياطين . لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا لتخطفتم .
20247 - حدثني يعقوب قال : حدثنا قال : حدثنا ابن علية عمارة بن أبي حفصة ، عن أبي مجلز قال : جاء رجل من مراد إلى علي رضي الله عنه وهو يصلي ، فقال : احترس ، فإن ناسا من مراد يريدون قتلك! فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه ، وإن الأجل جنة حصينة .
20248 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن الحسن بن ذكوان ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة قال : ما من آدمي إلا ومعه ملك موكل يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له .
وقال آخرون : معنى ذلك : يحفظون عليه من الله .
ذكر من قال ذلك :
20249 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن : ( ابن جريج يحفظونه من أمر الله ) ، قال : يحفظون عليه من الله .
قال أبو جعفر : يعني بقوله : "يحفظون عليه" الملائكة الموكلة بابن آدم ، بحفظ حسناته وسيئاته ، وهي "المعقبات" عندنا ، تحفظ على ابن آدم حسناته وسيئاته من أمر الله . [ ص: 379 ] ابن جريج
قال أبو جعفر : وعلى هذا القول يجب أن يكون معنى قوله : ( من أمر الله ) ، أن الحفظة من أمر الله ، أو تحفظ بأمر الله ويجب أن تكون "الهاء" التي في قوله : ( يحفظونه ) وحدت وذكرت وهي مراد بها الحسنات والسيئات؛ لأنها كناية عن ذكر "من" الذي هو مستخف بالليل وسارب بالنهار وأن يكون "المستخفي بالليل" أقيم ذكره مقام الخبر عن سيئاته وحسناته ، كما قيل : ( واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ) ، [ سورة يوسف : 82 ] .
وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك خلاف هذه الأقوال كلها : -
20250 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) قال : عامر بن الطفيل ، وأربد بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عامر : ما تجعل لي إن أنا اتبعتك؟ قال : أنت فارس ، أعطيك أعنة الخيل . قال : لا . قال : "فما تبغي؟ قال : لي الشرق ولك الغرب . قال : لا . قال : فلي الوبر ولك المدر . قال : لا . قال : لأملأنها عليك إذا خيلا ورجالا . قال : يمنعك الله ذاك وابنا قيلة - يريد الأوس والخزرج - قال : فخرجا ، فقال عامر لأربد : إن كان الرجل لنا لممكنا ، لو قتلناه ما انتطحت فيه عنزان ، ولرضوا بأن نعقله لهم وأحبوا السلم وكرهوا الحرب إذا رأوا أمرا قد وقع . فقال الآخر : إن شئت . فتشاورا ، [ ص: 380 ] وقال : ارجع وأنا أشغله عنك بالمجادلة ، وكن وراءه فاضربه بالسيف ضربة واحدة . فكانا كذلك : واحد وراء النبي صلى الله عليه وسلم ، والآخر قال : اقصص علينا قصصك . قال : ما تقول؟ قال : قرآنك! فجعل يجادله ويستبطئه ، حتى قال : ما لك حشمت؟ قال : وضعت يدي على قائم سيفي [ فيبست ] فما قدرت على أن أحلي ولا أمر ولا أحركها . قال : فخرجا ، فلما كانا بالحرة ، سمع بذلك سعد بن معاذ ، فخرجا إليهما ، على كل واحد منهما لأمته ، ورمحه بيده ، وهو متقلد سيفه . فقالا وأسيد بن حضير لعامر بن الطفيل : يا أعور [ حسا ] يا أبلخ ، أنت الذي يشرط على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لولا أنك في أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رمت المنزل حتى نضرب عنقك ، ولكن [ لا نستعين ] . وكان أشد الرجلين عليه أسيد بن الحضير ، [ فقال : من هذا؟ فقالوا : أسيد بن حضير ] ؟ فقال : لو كان أبوه حيا لم يفعل بي هذا! ثم قال [ ص: 381 ] لأربد : اخرج أنت يا أربد إلى ناحية عدنة ، وأخرج أنا إلى نجد ، فنجمع الرجال فنلتقي عليه . فخرج أربد حتى إذا كان بالرقم ، بعث الله سحابة من الصيف فيها صاعقة! فأحرقته . قال : وخرج عامر حتى إذا كان بواد يقال له الجرير ، أرسل الله عليه الطاعون ، فجعل يصيح : يا آل عامر ، أغدة كغدة البكر تقتلني! يا آل عامر ، أغدة كغدة البكر تقتلني ، وموت أيضا في بيت سلولية! وهي امرأة من قيس . فذلك قول الله : ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ) فقرأ حتى بلغ : ( يحفظونه ) تلك المعقبات من أمر الله ، هذا مقدم ومؤخر . لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، تلك المعقبات من أمر الله . وقال لهذين : ( أتى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فقرأ حتى بلغ : ( يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) الآية ، فقرأ حتى بلغ : ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) . قال وقال لبيد في أخيه أربد ، وهو يبكيه :
أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد [ ص: 382 ] فجعني الرعد والصواعق بال
فارس يوم الكريهة النجد
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله ابن زيد في تأويل هذه الآية ، قول بعيد من تأويل الآية ، مع خلافه أقوال من ذكرنا قوله من أهل التأويل .
وذلك أنه جعل "الهاء" في قوله : ( له معقبات ) من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يجر له في الآية التي قبلها ولا في التي قبل الأخرى ذكر ، إلا أن يكون أراد أن يردها على قوله : ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد له معقبات ) فإن كان ذلك ، فذلك بعيد ، لما بينهما من الآيات بغير ذكر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإذا كان ذلك ، فكونها عائدة على "من" التي في قوله : ( ومن هو مستخف بالليل ) أقرب؛ لأنه قبلها والخبر بعدها عنه .
فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : سواء منكم ، أيها الناس من أسر القول ومن جهر به عند ربكم ، ومن هو مستخف بفسقه وريبته في ظلمة الليل ، وسارب يذهب ويجيء في ضوء النهار ممتنعا بجنده وحرسه الذين يتعقبونه من أهل طاعة الله أن يحولوا بينه وبين ما يأتي من ذلك ، وأن يقيموا حد الله عليه ، وذلك قوله : ( يحفظونه من أمر الله ) .
وقوله : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) يقول تعالى ذكره : ( إن الله لا يغير ما بقوم ) ، من عافية ونعمة ، فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم ( حتى يغيروا ما بأنفسهم ) من ذلك بظلم بعضهم بعضا ، واعتداء بعضهم على بعض ، [ ص: 383 ] فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره .
وقوله : ( وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ) يقول : وإذا أراد الله بهؤلاء الذين يستخفون بالليل ويسربون بالنهار ، لهم جند ومنعة من بين أيديهم ومن خلفهم ، يحفظونهم من أمر الله هلاكا وخزيا في عاجل الدنيا ، ( فلا مرد له ) يقول : فلا يقدر على رد ذلك عنهم أحد غير الله . يقول تعالى ذكره : ( وما لهم من دونه من وال ) يقول : وما لهؤلاء القوم . و "الهاء والميم" في "لهم" من ذكر القوم الذين في قوله : ( وإذا أراد الله بقوم سوءا ) . من دون الله ( من وال ) يعني : من وال يليهم ويلي أمرهم وعقوبتهم .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : "السوء" الهلكة ، ويقول : كل جذام وبرص وعمى وبلاء عظيم فهو "سوء" مضموم الأول ، وإذا فتح أوله فهو مصدر : "سؤت" ومنه قولهم : "رجل سوء" .
واختلف أهل العربية في معنى قوله : ( ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) .
فقال بعض نحويي أهل البصرة : معنى قوله : ( ومن هو مستخف بالليل ) ومن هو ظاهر بالليل ، من قولهم : "خفيت الشيء" إذا أظهرته ، وكما قال امرؤ القيس :
فإن تكتموا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
وقال في قوله : ( وسارب بالنهار ) ، "السارب" هو المتواري ، كأنه وجهه إلى [ ص: 384 ] أنه صار في السرب بالنهار مستخفيا .
وقال بعض نحويي البصرة والكوفة : إنما معنى ذلك : ( ومن هو مستخف ) ، أي مستتر بالليل من الاستخفاء ( وسارب بالنهار ) : وذاهب بالنهار ، من قولهم : "سربت الإبل إلى الرعي ، وذلك ذهابها إلى المراعي وخروجها إليها .
وقيل : إن "السروب" : بالعشي ، و "السروح" : بالغداة .
واختلفوا أيضا في تأنيث "معقبات" وهي صفة لغير الإناث .
فقال بعض نحويي البصرة : إنما أنثت لكثرة ذلك منها ، نحو : "نسابة" و "علامة" ثم ذكر لأن المعني مذكر ، فقال : "يحفظونه" .
وقال بعض نحويي الكوفة : إنما هي "ملائكة معقبة" ثم جمعت "معقبات" فهو جمع جمع ، ثم قيل : "يحفظونه " لأنه للملائكة .
وقد تقدم قولنا في معنى : "المستخفي بالليل والسارب بالنهار" .
وأما الذي ذكرناه عن نحويي البصريين في ذلك ، فقول - وإن كان له في كلام العرب وجه - خلاف لقول أهل التأويل . وحسبه من الدلالة على فساده ، خروجه عن قول جميعهم .
وأما "المعقبات" فإن "التعقيب" في كلام العرب ، العود بعد البدء ، والرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه ، من قول الله تعالى : ( ولى مدبرا ولم يعقب ) ، أي : لم يرجع ، وكما قال سلامة بن جندل : [ ص: 385 ]
وكرنا الخيل في آثارهم رجعا كس السنابك من بدء وتعقيب
ولقد كنت عليكم عاتبا فعقبتم بذنوب غير مر
وأتاها التأنيث عندنا ، وهي من صفة الحرس الذين يحرسون المستخفي بالليل والسارب بالنهار؛ لأنه عني بها "حرس معقبة" ثم جمعت "المعقبة" فقيل : "معقبات" فذلك جمع جمع "المعقب" و "المعقب" واحد "المعقبة" كما قال لبيد :
حتى تهجر في الرواح وهاجه طلب المعقب حقه المظلوم
ثم قال : "يحفظونه" فرد الخبر إلى تذكير الحرس والجند .
وأما قوله : ( يحفظونه من أمر الله ) فإن أهل العربية اختلفوا في معناه . [ ص: 386 ]
فقال بعض نحويي الكوفة : معناه : له معقبات من أمر الله يحفظونه ، وليس من أمره [ يحفظونه ] إنما هو تقديم وتأخير . قال : ويكون : يحفظونه ذلك الحفظ من أمر الله وبإذنه ، كما تقول للرجل : "أجبتك من دعائك إياي ، وبدعائك إياي" .
وقال بعض نحويي البصريين ، معنى ذلك : يحفظونه عن أمر الله ، كما قالوا : "أطعمني من جوع ، وعن جوع" و "كساني عن عري ، ومن عري" .
وقد دللنا فيما مضى على أن أولى القول بتأويل ذلك أن يكون قوله : ( يحفظونه من أمر الله ) ، من صفة حرس هذا المستخفي بالليل ، وهي تحرسه ظنا منها أنها تدفع عنه أمر الله ، فأخبر تعالى ذكره أن حرسه ذلك لا يغني عنه شيئا إذا جاء أمره ، فقال : ( وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ) .