قال أبو جعفر : وهذا مثل ضربه الله للحق والباطل ، والإيمان به والكفر .
يقول تعالى ذكره : مثل الحق في ثباته والباطل في اضمحلاله ، مثل ماء [ ص: 409 ] أنزله الله من السماء إلى الأرض ( فسالت أودية بقدرها ) ، يقول : فاحتملته الأودية بملئها ، الكبير بكبره ، والصغير بصغره ( فاحتمل السيل زبدا رابيا ) ، يقول : فاحتمل السيل الذي حدث عن ذلك الماء الذي أنزله الله من السماء ، زبدا عاليا فوق السيل .
فهذا أحد مثلي الحق والباطل ، فالحق هو الماء الباقي الذي أنزله الله من السماء ، والزبد الذي لا ينتفع به هو الباطل .
والمثل الآخر : ( ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية ) يقول جل ثناؤه : ومثل آخر للحق والباطل ، مثل فضة أو ذهب يوقد عليها الناس في النار طلب حلية يتخذونها أو متاع ، وذلك من النحاس والرصاص والحديد ، يوقد عليه ليتخذ منه متاع ينتفع به ، ( زبد مثله ) ، يقول تعالى ذكره : ومما يوقدون عليه من هذه الأشياء زبد مثله ، يعني مثل زبد السيل لا ينتفع به ويذهب باطلا كما لا ينتفع بزبد السيل ويذهب باطلا .
ورفع "الزبد" بقوله : ( ومما يوقدون عليه في النار ) .
ومعنى الكلام : ومما يوقدون عليه في النار زبد مثل زبد السيل في بطول زبده ، وبقاء خالص الذهب والفضة .
يقول الله تعالى : ( كذلك يضرب الله الحق والباطل ) ، يقول : كما مثل الله مثل الإيمان والكفر ، في بطول الكفر وخيبة صاحبه عند مجازاة الله ، بالباقي النافع من ماء السيل وخالص الذهب والفضة ، كذلك يمثل الله الحق والباطل ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) يقول : فأما الزبد الذي علا السيل والذهب والفضة والنحاس والرصاص عند الوقود عليها ، فيذهب بدفع الرياح وقذف الماء به ، وتعلقه بالأشجار وجوانب الوادي ( وأما ما ينفع الناس ) من الماء والذهب والفضة والرصاص [ ص: 410 ] والنحاس ، فالماء يمكث في الأرض فتشربه ، والذهب والفضة تمكث للناس ( كذلك يضرب الله الأمثال ) يقول : كما مثل هذا المثل للإيمان والكفر ، كذلك يمثل الأمثال .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
20311 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) فهذا مثل ضربه الله ، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها ، فأما الشك فلا ينفع معه العمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله ، وهو قوله : ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) ، وهو الشك ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، وهو اليقين ، كما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار ، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك .
20312 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ) ، يقول : احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة ، ( ومما يوقدون عليه في النار ) فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد ، وللنحاس والحديد خبث ، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء . فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة ، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت . فجعل ذلك مثل العمل الصالح يبقى لأهله ، والعمل السيئ يضمحل عن أهله ، كما يذهب هذا الزبد ، فكذلك الهدى والحق جاء من عند الله ، فمن عمل بالحق كان له ، وبقي كما يبقى ما ينفع الناس في الأرض . وكذلك الحديد لا يستطاع أن تجعل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل خبثه ، فيخرج جيده فينتفع به . [ ص: 411 ]
فكذلك يضمحل الباطل إذا كان يوم القيامة ، وأقيم الناس ، وعرضت الأعمال ، فيزيغ الباطل ويهلك ، وينتفع أهل الحق بالحق ، ثم قال : ( ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ) .
20313 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ، عن ابن علية أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية ) إلى : ( أو متاع زبد مثله ) ، فقال : ابتغاء حلية الذهب والفضة ، أو متاع الصفر والحديد . قال : كما أوقد على الذهب والفضة والصفر والحديد فخلص خالصه . قال : ( كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، كذلك بقاء الحق لأهله فانتفعوا به .
20314 - حدثنا قال : حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال : قال حجاج بن محمد : أخبرني ابن جريج عبد الله بن كثير أنه سمع يقول : ( مجاهدا أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) ، قال : ما أطاقت ملأها ( فاحتمل السيل زبدا رابيا ) قال : انقضى الكلام ، ثم استقبل فقال : ( ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ) قال : المتاع : الحديد والنحاس والرصاص وأشباهه ( زبد مثله ) قال : خبث ذلك مثل زبد السيل . قال : ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، وأما الزبد فيذهب جفاء ، قال : فذلك مثل الحق والباطل .
20315 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : أنه سمعه يقول . فذكر نحوه وزاد فيه ، قال : قال : قال ابن جريج مجاهد قوله : ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) قال : جمودا في الأرض ، ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، يعني الماء . وهما مثلان : مثل الحق والباطل .
20316 - حدثنا الحسن قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن [ ص: 412 ] أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( زبدا رابيا ) السيل مثل خبث الحديد والحلية ( فيذهب جفاء ) جمودا في الأرض ( ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ) ، الحديد والنحاس والرصاص وأشباهه . وقوله : ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، إنما هما مثلان للحق والباطل .
20317 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
20318 - . . . قال : وحدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد - يزيد أحدهما على صاحبه - في قوله : ( فسالت أودية بقدرها ) قال : بملئها ( فاحتمل السيل زبدا رابيا ) ، قال : الزبد : السيل ( ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ) ، قال : خبث الحديد والحلية ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) قال : جمودا في الأرض ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) قال : الماء ، وهما مثلان للحق والباطل .
20319 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) ، الصغير بصغره ، والكبير بكبره ( فاحتمل السيل زبدا رابيا ) أي عاليا ( ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء ) و "الجفاء" ما يتعلق بالشجر ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) . هذه ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد . يقول : كما اضمحل هذا الزبد فصار جفاء لا ينتفع به ولا ترجى بركته ، كذلك يضمحل الباطل عن أهله كما اضمحل هذا الزبد ، وكما مكث هذا الماء في الأرض ، فأمرعت هذه الأرض وأخرجت نباتها ، كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي هذا الماء في الأرض ، فأخرج الله به ما أخرج من النبات . قوله : ( ومما توقدون عليه في النار ) الآية ، كما يبقى خالص الذهب والفضة حين أدخل النار وذهب خبثه ، كذلك يبقى الحق [ ص: 413 ] لأهله قوله : ( أو متاع زبد مثله ) ، يقول : هذا الحديد والصفر الذي ينتفع به فيه منافع . يقول : كما يبقى خالص هذا الحديد وهذا الصفر حين أدخل النار وذهب خبثه ، كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي خالصهما .
20320 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( فسالت أودية بقدرها ) ، الكبير بقدره ، والصغير بقدره ( زبدا رابيا ) قال : ربا فوق الماء الزبد "ومما توقدون عليه في النار" قال : هو الذهب إذا أدخل النار بقي صفوه ونفي ما كان من كدره . وهذا مثل ضربه الله للحق والباطل ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) ، يتعلق بالشجر فلا يكون شيئا ، هذا مثل الباطل ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، وهذا يخرج النبات ، وهو مثل الحق ( أو متاع زبد مثله ) قال : "المتاع" الصفر والحديد .
20321 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا هوذة بن خليفة قال : حدثنا عوف قال : بلغني في قوله : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) قال : إنما هو مثل ضربه الله للحق والباطل ( فسالت أودية بقدرها ) الصغير على قدره ، والكبير على قدره ، وما بينهما على قدره ( فاحتمل السيل زبدا رابيا ) يقول : عظيما ، وحيث استقر الماء يذهب الزبد جفاء فتطير به الريح فلا يكون شيئا ، ويبقى صريح الماء الذي ينفع الناس ، منه شرابهم ونباتهم ومنفعتهم ( أو متاع زبد مثله ) ، ومثل الزبد كل شيء يوقد عليه في النار الذهب والفضة والنحاس والحديد ، فيذهب خبثه ويبقى ما ينفع في أيديهم ، والخبث والزبد مثل الباطل ، والذي ينفع الناس مما تحصل في أيديهم مما ينفعهم المال الذي في أيديهم .
20322 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله " قال : هذا مثل ضربه الله للحق والباطل . فقرأ : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ) هذا الزبد لا ينفع ( أو متاع زبد مثله ) ، هذا لا ينفع [ ص: 414 ] أيضا قال : وبقي الماء في الأرض فنفع الناس ، وبقي الحلي الذي صلح من هذا ، فانتفع الناس به ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) ، وقال : هذا مثل ضربه الله للحق والباطل .
20323 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن قال : قال ابن جريج ابن عباس : ( أودية بقدرها ) قال : الصغير بصغره ، والكبير بكبره .
20324 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء : ضرب الله مثلا للحق والباطل ، فضرب مثل الحق كمثل السيل الذي يمكث في الأرض ، وضرب مثل الباطل كمثل الزبد الذي لا ينفع الناس .
وعنى بقوله : ( رابيا ) ، عاليا منتفخا ، من قولهم : ربا الشيء يربو ربوا فهو راب ، ومنه قيل للنشز من الأرض كهيئة الأكمة : "رابية" ومنه قول الله تعالى : ( اهتزت وربت ) . [ سورة الحج 5 - سورة فصلت 39 ] .
وقيل للنحاس والرصاص والحديد في هذا الموضع "المتاع " لأنه يستمتع به ، وكل ما يتمتع به الناس فهو "متاع"
كما قال الشاعر :
تمتع يا مشعث إن شيئا سبقت به الممات هو المتاع
[ ص: 415 ] وأما الجفاء فإني :
20325 - حدثت عن قال أبي عبيدة معمر بن المثنى ، أبو عمرو بن العلاء : يقال : قد أجفأت القدر ، وذلك إذا غلت فانصب زبدها ، أو سكنت فلا يبقى منه شيء .
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة ، أن معنى قوله : ( فيذهب جفاء ) تنشفه الأرض ، وقال : يقال : جفا الوادي وأجفى في معنى نشف ، و "انجفى الوادي" إذا جاء بذلك الغثاء ، و "غثى الوادي فهو يغثى غثيا وغثيانا" وذكر عن العرب أنها تقول : "جفأت القدر أجفؤها" إذا أخرجت جفاءها ، وهو الزبد الذي يعلوها و "أجفأتها إجفاء" لغة . قال : وقالوا : "جفأت الرجل جفأ" صرعته .
وقيل : ( فيذهب جفاء ) بمعنى "جفأ " لأنه مصدر من قول القائل : جفأ الوادي غثاءه ، فخرج مخرج الاسم ، وهو مصدر ، كذلك تفعل العرب في مصدر كل ما كان من فعل شيء اجتمع بعضه إلى بعض ك "القماش والدقاق والحطام والغثاء" تخرجه على مذهب الاسم ، كما فعلت ذلك في [ ص: 416 ] قولهم : "أعطيته عطاء" بمعنى الإعطاء ، ولو أريد من "القماش" المصدر على الصحة لقيل : "قد قمشه قمشا" .