يقول تعالى ذكره : ويجعل هؤلاء المشركون لله ما يكرهونه لأنفسهم . ( وتصف ألسنتهم الكذب ) يقول : وتقول ألسنتهم الكذب وتفتريه ، أن لهم الحسنى ، فأن في موضع نصب ، لأنها ترجمة عن الكذب . وتأويل الكلام : ويجعلون لله ما يكرهونه لأنفسهم ، ويزعمون أن لهم الحسنى ، الذي يكرهونه لأنفسهم . البنات يجعلونهن لله تعالى ، وزعموا أن الملائكة بنات الله . وأما الحسنى التي جعلوها لأنفسهم : فالذكور من الأولاد ، وذلك أنهم كانوا يئدون الإناث من أولادهم ، ويستبقون الذكور منهم ، ويقولون : لنا الذكور ولله البنات ، وهو نحو قوله ( ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون )
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
[ ص: 232 ] ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ) قال : قول قريش : لنا البنون ولله البنات .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : قول كفار قريش .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب ) : أي يتكلمون بأن لهم الحسنى أي الغلمان .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( أن لهم الحسنى ) قال : الغلمان .
وقوله ( لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ) يقول تعالى ذكره : حقا واجبا أن لهؤلاء القائلين لله البنات ، الجاعلين له ما يكرهونه لأنفسهم ، ولأنفسهم الحسنى عند الله يوم القيامة النار .
وقد بينا تأويل قول الله ( لا جرم ) في غير موضع من كتابنا هذا بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وروي عن ابن عباس في ذلك ، ما حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( لا جرم ) يقول : بلى .
وقوله : ( لا جرم ) كان بعض أهل العربية يقول : لم تنصب جرم بلا كما نصبت الميم من قول : لا غلام لك ; قال : ولكنها نصبت لأنها فعل ماض ، مثل قول القائل : قعد فلان وجلس ، والكلام : لا رد لكلامهم أي ليس الأمر هكذا ، جرم : كسب ، مثل قوله لا أقسم ، ونحو ذلك . وكان بعضهم يقول : نصب جرم بلا وإنما هو بمعنى : لا بد ، ولا محالة ; ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة حقا .
وقوله : ( وأنهم مفرطون ) يقول تعالى ذكره : وأنهم مخلفون متروكون في النار ، منسيون فيها .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال أكثرهم بنحو ما قلنا في ذلك .
[ ص: 233 ] ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار قالا ثنا وابن وكيع ، محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية ( لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ) قال : منسيون مضيعون .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا قال : أخبرنا زيد بن حباب ، سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا بهز بن أسد ، عن شعبة ، قال : أخبرني أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله ( لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ) قال : متروكون في النار ، منسيون فيها .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : حصين ، أخبرنا ، عن سعيد بن جبير ، بمثله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا الحجاج بن المنهال ، قال : ثنا هشيم ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير بمثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وأنهم مفرطون ) قال : منسيون .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبدة وأبو معاوية وأبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك ( وأنهم مفرطون ) قال : متروكون في النار .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، القاسم ، عن مجاهد ( مفرطون ) قال : منسيون .
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، عن الحسين ، عن قتادة ( وأنهم مفرطون ) يقول : مضاعون .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا بدل ، قال : ثنا عباد بن راشد ، قال : سمعت في قول الله ( داود بن أبي هند ، وأنهم مفرطون ) قال : منسيون في النار .
[ ص: 234 ] وقال آخرون : معنى ذلك : أنهم معجلون إلى النار مقدمون إليها ، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب : أفرطنا فلانا في طلب الماء ، إذا قدموه لإصلاح الدلاء والأرشية ، وتسوية ما يحتاجون إليه عند ورودهم عليه فهو مفرط . فأما المتقدم نفسه فهو فارط ، يقال : قد فرط فلان أصحابه يفرطهم فرطا وفروطا : إذا تقدمهم وجمع فارط : فراط ومنه قول القطامي :
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لوراد
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " " : أي متقدمكم إليه وسابقكم "حتى تردوه" . أنا فرطكم على الحوضذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وأنهم مفرطون ) يقول : معجلون إلى النار .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وأنهم مفرطون ) قال : قد أفرطوا في النار أي معجلون .
وقال آخرون . معنى ذلك : مبعدون في النار .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أشعث السمان ، عن الربيع ، عن أبي بشر ، عن سعيد ( وأنهم مفرطون ) قال : مخسئون مبعدون .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي اخترناه ، وذلك أن الإفراط الذي هو بمعنى التقديم ، إنما يقال فيمن قدم مقدما لإصلاح ما يقدم إليه إلى وقت ورود من قدمه عليه ، وليس بمقدم من قدم إلى النار من أهلها لإصلاح شيء فيها لوارد يرد عليها فيها فيوافقه مصلحا ، وإنما تقدم من قدم إليها لعذاب يعجل له . فإذا كان معنى ذلك الإفراط الذي هو تأويل التعجيل ففسد أن يكون له [ ص: 235 ] وجه في الصحة ، صح المعنى الآخر ، وهو الإفراط الذي بمعنى التخليف والترك . وذلك أنه يحكى عن العرب : ما أفرطت ورائي أحدا : أي ما خلفته ; وما فرطته : أي لم أخلفه .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المصرين الكوفة والبصرة ( وأنهم مفرطون ) بتخفيف الراء وفتحها ، على معنى ما لم يسم فاعله من أفرط فهو مفرط . وقد بينت اختلاف قراءة ذلك كذلك في التأويل . وقرأه أبو جعفر القارئ . "وأنهم مفرطون" بكسر الراء وتشديدها ، بتأويل : أنهم مفرطون في أداء الواجب الذي كان لله عليهم في الدنيا ، من طاعته وحقوقه ، مضيعو ذلك ، من قول الله تعالى ( يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ) وقرأ نافع بن أبي نعيم : "وأنهم مفرطون" بكسر الراء وتخفيفها .
حدثني بذلك يونس ، عن ورش عنه ، بتأويل : أنهم مفرطون في الذنوب والمعاصي ، مسرفون على أنفسهم مكثرون منها ، من قولهم : أفرط فلان في القول : إذا تجاوز حده ، وأسرف فيه .
والذي هو أولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة الذين ذكرنا قراءتهم من أهل العراق لموافقتها تأويل أهل التأويل الذي ذكرنا قبل ، وخروج القراءات الأخرى عن تأويلهم .