يقول تعالى ذكره : وإن لكم أيها الناس لعظة في الأنعام التي نسقيكم مما في بطونه .
واختلفت القراء في قراءة قوله ( نسقيكم ) فقرأته عامة أهل مكة والعراق والكوفة والبصرة ، سوى عاصم ; ومن أهل المدينة أبو جعفر ( نسقيكم ) بضم النون . بمعنى : أنه أسقاهم شرابا دائما . وكان الكسائي يقول : العرب تقول : أسقيناهم نهرا ، وأسقيناهم لبنا : إذا جعلته شربا دائما ، فإذا أرادوا أنهم أعطوه شربة قالوا : سقيناهم فنحن نسقيهم بغير ألف ; وقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة سوى أبي جعفر ، ومن أهل العراق عاصم ( نسقيكم ) بفتح النون من سقاه الله ، فهو يسقيه ، والعرب قد تدخل الألف فيما كان من السقي غير دائم ، وتنزعها فيما كان دائما ، وإن كان أشهر الكلامين عندها ما قال الكسائي ، يدل على ما قلنا من ذلك ، قول لبيد في صفة سحاب :
سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال
فجمع اللغتين كلتيهما في معنى واحد ، فإذا كان ذلك كذلك ، فبأية القراءتين قرأ القارئ فمصيب ، غير أن أعجب القراءتين إلي قراءة ضم النون لما ذكرت من أن أكثر الكلامين عند العرب فيما كان دائما من السقي أسقى بالألف فهو يسقي ، وما أسقى الله عباده من بطون الأنعام فدائم لهم غير منقطع عنهم . وأما قوله ( مما في بطونه ) وقد ذكر الأنعام قبل ذلك ، وهي جمع والهاء في البطون موحدة ، فإن لأهل العربية في ذلك أقوالا فكان بعض نحويي الكوفة يقول : النعم والأنعام شيء واحد ، لأنهما جميعا جمعان ، فرد الكلام في [ ص: 238 ] قوله ( مما في بطونه ) إلى التذكير مرادا به معنى النعم ، إذ كان يؤدي عن الأنعام ، ويستشهد لقوله ذلك برجز بعض الأعراب :إذا رأيت أنجما من الأسد جبهته أو الخراة والكتد
بال سهيل في الفضيخ ففسد وطاب ألبان اللقاح فبرد
أكل عام نعم تحوونه يلقحه قوم وتنتجونه
مثل الفراخ نتفت حواصله
وقول الأسود بن يعفر :إن المنية والحتوف كلاهما يوفي المخارم يرقبان سوادي
إن السماحة والمروءة ضمنا قبرا بمرو على الطريق الواضح
وعفراء أدنى الناس مني مودة وعفراء عني المعرض المتواني
إذا الناس ناس والبلاد بغبطة وإذ أم عمار صديق مساعف
وقوله : ( من بين فرث ودم لبنا خالصا ) يقول : نسقيكم لبنا ، نخرجه لكم من بين فرث ودم خالصا : يقول : خلص من مخالطة الدم والفرث ، فلم يختلطا به ( سائغا للشاربين ) يقول : يسوغ لمن شربه فلا يغص به كما يغص الغاص ببعض ما يأكله من الأطعمة . وقيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط .