يقول الله تعالى ذكره : ومثل الله مثلا لمكة التي سكنها أهل الشرك بالله هي القرية التي كانت آمنة مطمئنة ، وكان أمنها أن العرب كانت تتعادى ، ويقتل بعضها بعضا ، ويسبي بعضها بعضا ، وأهل مكة لا يغار عليهم ، ولا يحاربون في بلدهم ، فذلك كان أمنها . وقوله ( مطمئنة ) يعني قارة بأهلها ، لا يحتاج أهلها إلى النجع ، كما كان سكان البوادي يحتاجون إليها ( يأتيها رزقها رغدا ) يقول : يأتي أهلها معايشهم واسعة كثيرة . وقوله ( من كل مكان ) يعني : من كل فج من فجاج هذه القرية ، ومن كل ناحية فيها .
وبنحو الذي قلنا في أن القرية التي ذكرت في هذا الموضع أريد بها مكة ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله [ ص: 310 ] ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ) يعني : مكة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( قرية كانت آمنة مطمئنة ) قال : مكة .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد مثله .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ) قال : ذكر لنا أنها مكة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( قرية كانت آمنة ) قال : هي مكة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ) . . . إلى آخر الآية . قال : هذه مكة .
وقال آخرون : بل القرية التي ذكر الله في هذا الموضع مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني قال : ثنا ابن عبد الرحيم البرقي ، ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : ثني عبد الرحمن بن شريح ، أن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي ، حدث أنه سمع مشرح بن عاهان ، يقول : سمعت سليم بن نمير يقول : صدرنا من الحج مع حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وعثمان محصور بالمدينة ، فكانت تسأل عنه ما فعل ، حتى رأت راكبين ، فأرسلت إليهما تسألهما ، فقالا : قتل . فقالت حفصة : والذي نفسي بيده إنها القرية ، تعني المدينة التي قال الله تعالى ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله ) قرأها ، قال أبو شريح : وأخبرني عبد الله بن المغيرة عمن حدثه ، أنه كان يقول : إنها المدينة ، وقوله : ( فكفرت بأنعم الله ) يقول : فكفر أهل هذه القرية بأنعم الله التي أنعم عليها . [ ص: 311 ]
واختلف أهل العربية في واحد الأنعم ، فقال بعض نحويي البصرة : جمع النعمة على أنعم ، كما قال الله ( حتى إذا بلغ أشده ) فزعم أنه جمع الشدة . وقال آخر منهم الواحد نعم ، وقال : يقال : أيام طعم ونعم : أي نعيم ، قال : فيجوز أن يكون معناها : فكفرت بنعيم الله لها . واستشهد على ذلك بقول الشاعر :
وعندي قروض الخير والشر كله فبؤس لذي بؤس ونعم بأنعم
وكان بعض أهل الكوفة يقول : أنعم : جمع نعماء ، مثل بأساء وأبؤس ، وضراء وأضر ; فأما الأشد فإنه زعم أنه جمع شد .
وقوله ( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ) يقول تعالى ذكره : فأذاق الله أهل هذه القرية لباس الجوع ، وذلك جوع خالط أذاه أجسامهم ، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لمخالطته بأجسامهم بمنزلة اللباس لها . وذلك أنهم سلط عليهم الجوع سنين متوالية بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أكلوا العلهز والجيف . قال أبو جعفر : والعلهز : الوبر يعجن بالدم والقراد يأكلونه ; وأما الخوف فإن ذلك كان خوفهم من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت تطيف بهم . وقوله ( بما كانوا يصنعون ) يقول : بما كانوا يصنعون من الكفر بأنعم الله ، ويجحدون آياته ، ويكذبون رسوله ، وقال : بما كانوا يصنعون ، وقد جرى الكلام من ابتداء الآية إلى هذا الموضع على وجه الخبر عن القرية ، لأن الخبر وإن كان جرى في الكلام عن القرية ، استغناء بذكرها عن ذكر أهلها لمعرفة السامعين بالمراد منها ، فإن المراد أهلها فلذلك قيل ( بما كانوا يصنعون ) فرد الخبر إلى أهل القرية ، وذلك نظير قوله ( فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ) ولم يقل قائلة ، وقد قال قبله ( فجاءها بأسنا ) ، لأنه رجع بالخبر إلى الإخبار عن أهل القرية ، ونظائر ذلك في القرآن كثيرة .