[ ص: 439 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا    ( 33 ) ) 
يقول جل ثناؤه : وقضى أيضا أن ( لا تقتلوا ) أيها الناس ( النفس التي حرم الله   ) قتلها ( إلا بالحق   ) وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام ، أو زنا بعد إحصان ، أو قود نفس ، وإن كانت كافرة لم يتقدم كفرها إسلام ، فإن لا يكون تقدم قتلها لها عهد وأمان . 
كما حدثنا بشر ،  قال : ثنا يزيد  ، قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة ،  قوله ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق   ) وإنا والله ما نعلم بحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ، إلا رجلا قتل متعمدا  ، فعليه القود ، أو زنى بعد إحصانه  فعليه الرجم ، أو كفر بعد إسلامه  فعليه القتل  . 
حدثنا ابن وكيع ،  قال : ثنا ابن عيينة ،  عن الزهري ،  عن عروة  أو غيره ، قال : قيل لأبي بكر   : أتقتل من يرى أن لا يؤدي الزكاة ، قال : لو منعوني شيئا مما أقروا به لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم فقيل لأبي بكر   : أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله  " فقال أبو بكر   : هذا من حقها . 
حدثني موسى بن سهل ،  قال : ثنا عمرو بن هاشم ،  قال : ثنا  سليمان بن حيان ،  عن حميد الطويل ،  عن أنس بن مالك ،  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله; قيل : وما حقها ؟ قال : زنا بعد إحصان ، وكفر بعد إيمان ، وقتل نفس فيقتل بها  " . 
وقوله ( ومن قتل مظلوما   ) يقول : ومن قتل بغير المعاني التي ذكرنا أنه إذا قتل بها كان قتلا بحق ( فقد جعلنا لوليه سلطانا   ) يقول : فقد جعلنا لولي  [ ص: 440 ] المقتول ظلما سلطانا على قاتل وليه ، فإن شاء استقاد منه فقتله بوليه ، وإن شاء عفا عنه ، وإن شاء أخذ الدية . 
وقد اختلف أهل التأويل في معنى السلطان الذي جعل لولي المقتول ، فقال بعضهم في ذلك ، نحو الذي قلنا . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني محمد بن سعد ،  قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ،  قوله ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا   ) قال : بينة من الله عز وجل أنزلها يطلبها ولي المقتول ، العقل ، أو القود ، وذلك السلطان  . 
حدثنا  محمد بن بشار ،  قال : ثنا عبد الرحمن ،  قال : ثنا سفيان ،  عن جويبر ،  عن الضحاك بن مزاحم ،  في قوله ( فقد جعلنا لوليه سلطانا   ) قال : إن شاء عفا ، وإن شاء أخذ الدية . 
وقال آخرون : بل ذلك السلطان : هو القتل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ،  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة ،  قوله ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا   ) وهو القود الذي جعله الله تعالى  . 
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأول ذلك : أن السلطان الذي ذكر الله تعالى في هذا الموضع ما قاله ابن عباس ،  من أن لولي القتيل القتل إن شاء وإن شاء أخذ الدية ، وإن شاء العفو ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة   :  " ألا ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يقتل أو يأخذ الدية " . قد بينت الحكم في ذلك في كتابنا : كتاب الجراح . 
وقوله ( فلا يسرف في القتل   ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الكوفة   ( فلا تسرف ) بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد به هو والأئمة من بعده ، يقول : فلا تقتل بالمقتول ظلما غير قاتله ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك إذا قتل رجل رجلا عمد ولي القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل ، فقتله بوليه ، وترك القاتل ، فنهى الله عز وجل عن  [ ص: 441 ] ذلك عباده ، وقال لرسوله عليه الصلاة والسلام : قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف ، فلا تقتل به غير قاتله ، وإن قتلت القاتل بالمقتول فلا تمثل به . وقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة  والبصرة    ( فلا يسرف ) بالياء ، بمعنى فلا يسرف ولي المقتول ، فيقتل غير قاتل وليه . وقد قيل : عنى به : فلا يسرف القاتل الأول لا ولي المقتول . 
والصواب من القول في ذلك عندي ، أن يقال : إنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، وذلك أن خطاب الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأمر أو نهي في أحكام الدين ، قضاء منه بذلك على جميع عباده ، وكذلك أمره ونهيه بعضهم ، أمر منه ونهي جميعهم ، إلا فيما دل فيه على أنه مخصوص به بعض دون بعض ، فإن كان ذلك كذلك بما قد بينا في كتابنا [ كتاب البيان ، عن أصول الأحكام ] فمعلوم أن خطابه تعالى بقوله ( فلا تسرف في القتل ) نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإن كان موجها إليه أنه معني به جميع عباده ، فكذلك نهيه ولي المقتول أو القاتل عن الإسراف في القتل ، والتعدي فيه نهي لجميعهم ، فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب صواب القراءة في ذلك . 
وقد اختلف أهل التأويل في تأويلهم ذلك نحو اختلاف القراء في قراءتهم إياه . 
ذكر من تأول ذلك : بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : 
حدثنا ابن بشار ،  قال : ثنا عبد الرحمن ،  قالا ثنا سفيان ،  عن منصور ،  عن  طلق بن حبيب  ، في قوله ( فلا تسرف في القتل ) قال لا تقتل غير قاتله ، ولا تمثل به   . 
حدثنا ابن حميد ،  قال : ثنا جرير . عن منصور ،  عن  طلق بن حبيب ،  بنحوه . 
حدثنا الحسن بن يحيى ،  قال : أخبرنا عبد الرزاق ،  قال : أخبرنا الثوري ،  عن خصيف ،  عن سعيد بن جبير ،  في قوله ( فلا تسرف في القتل ) قال : لا تقتل اثنين بواحد .  [ ص: 442 ] 
حدثت عن الحسين بن الفرج ،  قال : سمعت أبا معاذ ،  يقول : أخبرنا عبيد ،  قال : سمعت الضحاك  يقول في قوله ( فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا   ) كان هذا بمكة ،  ونبي الله صلى الله عليه وسلم بها ، وهو أول شيء نزل من القرآن في شأن القتل ، كان المشركون يغتالون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تبارك وتعالى : من قتلكم من المشركين ، فلا يحملنكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أبا أو أخا أو أحدا من عشيرته ، وإن كانوا مشركين ، فلا تقتلوا إلا قاتلكم; وهذا قبل أن تنزل براءة ، وقبل أن يؤمروا بقتال المشركين ، فذلك قوله ( فلا تسرف في القتل ) يقول : لا تقتل غير قاتلك ، وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين ، لا يحل لهم أن يقتلوا إلا قاتلهم . 
ذكر من قال : عني به ولي المقتول حدثني يعقوب ، قال : ثنا  ابن علية ،  قال : ثنا أبو رجاء ،  عن الحسن ،  في قوله ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا   ) قال : كان الرجل يقتل فيقول وليه : لا أرضى حتى أقتل به فلانا وفلانا من أشراف قبيلته  . 
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ،  قال : ثنا محمد بن ثور ،  عن معمر ،  عن قتادة   ( فلا تسرف في القتل ) قال : لا تقتل غير قاتلك ، ولا تمثل به . 
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ،  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( فلا يسرف في القتل   ) قال : لا يقتل غير قاتله; من قتل بحديدة قتل بحديدة; ومن قتل بخشبة قتل بخشبة; ومن قتل بحجر قتل بحجر  . ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :  " إن من أعتى الناس على الله جل ثناؤه ثلاثة : رجل قتل غير قاتله ، أو قتل بدخن في الجاهلية ، أو قتل في حرم الله " . 
حدثني يونس ،  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : سمعته ، يعني ابن زيد ،  يقول في قول الله جل ثناؤه ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا   ) قال : إن العرب كانت إذا قتل منهم قتيل ، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم ، حتى يقتلوا أشرف من الذي قتله ، فقال الله جل ثناؤه ( فقد جعلنا لوليه سلطانا   ) ينصره وينتصف من حقه ( فلا يسرف في القتل   ) يقتل بريئا  .  [ ص: 443 ] 
ذكر من قال عني به القاتل : حدثنا القاسم ،  قال : ثنا الحسين ،  قال : ثني حجاج ،  عن  ابن جريج ،  عن عبد الله بن كثير عن  مجاهد  ( فلا يسرف في القتل   ) قال : لا يسرف القاتل في القتل  . 
وقد ذكرنا الصواب من القراءة في ذلك عندنا ، وإذا كان كلا وجهي القراءة عندنا صوابا ، فكذلك جميع أوجه تأويله التي ذكرناها غير خارج وجه منها من الصواب ، لاحتمال الكلام ذلك ، وإن في نهي الله جل ثناؤه بعض خلقه عن الإسراف في القتل ، نهي منه جميعهم عنه . 
وأما قوله ( إنه كان منصورا   ) فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عني بالهاء التي في قوله ( إنه ) وعلى ما هي عائدة ، فقال بعضهم : هي عائدة على ولي المقتول ، وهو المعني بها ، وهو المنصور على القاتل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا ابن عبد الأعلى ،  قال : ثنا محمد بن ثور ،  عن معمر ، عن  قتادة  ( إنه كان منصورا   ) قال : هو دفع الإمام إليه ، يعني إلى الولي ، فإن شاء قتل ، وإن شاء عفا   . 
وقال آخرون : بل عني بها المقتول ، فعلى هذا القول هي عائدة على " من " في قوله ( ومن قتل مظلوما   ) . 
ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ،  قال : ثنا الحسين ،  قال : ثني حجاج ،  عن  ابن جريج ،  عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ( إنه كان منصورا   ) إن المقتول كان منصورا . 
وقال آخرون : عني بها دم المقتول ، وقالوا : معنى الكلام : إن دم القتيل كان منصورا على القاتل . 
وأشبه ذلك بالصواب عندي ، قول من قال : عني بها الولي ، وعليه عادت ، لأنه هو المظلوم ، ووليه المقتول ، وهي إلى ذكره أقرب من ذكر المقتول ، وهو المنصور أيضا ، لأن الله جل ثناؤه قضى في كتابه المنزل ، أنه سلطه على قاتل وليه ، وحكمه فيه ، بأن جعل إليه قتله إن شاء ، واستبقاءه على الدية إن أحب ، والعفو عنه إن رأى ، وكفى بذلك نصرة له من الله جل ثناؤه ، فلذلك قلنا : هو المعني بالهاء التي في قوله ( إنه كان منصورا   ) . 
				
						
						
